إن أردت تفحص مستوى مخرجات التعليم والتثقيف طول عقود من عصرنا الحديث، فراقب عن كثب طريقة النقاش حول الوباء العالمي «كورونا». منذ أشهر وأنا أحاول أن أتربص بالمخفقين والناجحين في تقييمي الشخصي البحت حول الموقف المجتمعي والفردي من الإجراءات العالمية والمحلية لمحاصرة الوباء. هل هناك حالة من الرضا العام؟ كيف نوقشت هذه المسائل في منصات الإعلام الجديد؟
الحقيقة لا تفسير لديّ سوى أن ما تحصّل عليه الفرد من تعليم وتثقيف وتوعية طوال حياته ظهر أثره في تعاطيه مع الجائحة، إن كان علمياً أو صحياً أو ثقافياً.
في بريطانيا خاضوا تجربة فريدة، كانت الإصابات مرتفعة إلى حد مرعب، وحصل كثير من الوفيات، نظراً لرفض الناس الالتزام بالإجراءات الاحترازية وشعورهم بالضيق من العزل والحظر والإغلاق، واحتارت الحكومة، لكن لحسن الحظ، الوضع تغير فجأة بعد حملة واسعة من تطعيم لقاحهم؛ أكسفورد، لدرجة اختفاء الإصابات وعودة الناس لحياتهم الطبيعية من دون قلق.
في الولايات المتحدة، كانت السياسات المتناقضة في التعاطي مع الجائحة لها سلبياتها، وهذا بدوره يضعنا أمام قناعة بأن للسياسيين ومناوراتهم أثراً كبيراً على الصحة العامة. اليوم حيث استقر الوضع، تسجل الولايات المتحدة ملايين من الجرعات المعطاة للناس في أجواء هادئة بعيدة عن الشد والجذب، حتى صراع اللقاحات بدأ يخبو وباشرت الدول المقتدرة شراء وإرسال لقاحات للدول التي تعاني. في الأحوال المُثلى، تقدم الحكومات العلاج، والسرير، واللقاح، لكن المهم أن نفهم من تجاربنا وتجارب غيرنا أنه لا يوجد نظام صحي في العالم كله، يستطيع حماية مجتمع ممتنع عن التطعيم، لا يستطيع النظام الصحي مواجهة المد الهائل من الإصابات، وعلى الناس تحمل نتيجة قرارهم.
كثير من الطروحات المتشنجة هدأت، والناس دخلت في عجلة الاستطباب والتعافي بقبولهم أخذ اللقاحات بقناعة، سواء قناعة العاقل أو العالِم. وقناعة العاقل حيث يشهد موت الممتنعين عن اللقاح ولا يجد سبيلاً إلا تجاوز عدم فهمه للتعقيدات العلمية للقاحات ودورة الوباء في الطبيعة ويحكّم عقله، إذ يرى في أخذ التطعيم نجاة له ولأحبابه، والعاقل بالنهاية خصيم نفسه. أما المختصون من باحثين وأطباء فهم أهل الشأن، ومبادرتهم بأخذ اللقاح وتوعية الناس أمر محسوم.
من سيبقى يجادل حول أهمية أخذ جرعة اللقاح ضد الفيروس؟ الدول النامية المكتظة بعشرات الملايين من البشر لن تعيش رفاهية الاختيار والرفض والنقاشات، هذه الدول قدمت اللقاحات المجانية من الصين وروسيا للناس لأنها خيارهم الوحيد للبقاء على قيد الحياة، فالدولة لا تستطيع توفير سرير وجهاز أكسجين لكل مصاب. لكن المجتمعات المرفهة قليلة التثقيف هشة التعليم، ستجد وقتاً وفرصاً للجدل البيزنطي حول أمر واضح وجلي للعالم كله، سيشاهدون الإصابات ولن يتعظوا، ويراقبون الوفيات ولن يتعظوا، هؤلاء عبء على الدولة التي وفرت لهم نظاماً صحياً يحميهم من الأمراض، ونظام تعليم يقيهم من التخلف والرجعية، كما أنهم خطر على الآخرين، فالجهل مثل «كورونا» معدٍ.
خلال موسم الحج هذا العام، تجمع 60 ألف حاج، مواطنين ومقيمين، من داخل المملكة. السعودية لديها موسم ديني في رمضان، وموسم آخر في شهر ذي الحجة، وبقية أيام السنة موسم للعمرة وزيارة الحرم النبوي. هذه المواسم تعني أن الحكومة السعودية مسؤولة عن أي حاج أو زائر يؤدي العبادة؛ عن صحته، وأمنه، وراحته. لذلك تدرس الحكومة بدقة خيارات حصر عدد الحجيج وتقييم الإجراءات المتبعة لضمان سلامة كل من يأتي من ضيوف. ومن حسن الحظ أن حج هذا العام أتى بعد 7 أشهر من بدء التطعيم ضد الوباء في المملكة، وتحقيق نسبة جيدة من المناعة المجتمعية المطلوبة. السعودية دولة مسؤولة، قدمت اللقاح للناس، لكنها كذلك فرضت إجراءات صارمة لحماية المجتمع، حتى بدأت الانفراجات وفتح المغلق وفك العزل. الحج منافع كما ذكر الله سبحانه وتعالى «لِيَشْهَدُوا مَنَافَعَ لَهُمْ»، فالحج موسم تجارة وعلم وأدب وتواصل، وفيه منافع كثيرة للحاج وللمستضيف، وكانت قريش قبل الإسلام تتقاسم خدمة الحجيج، من سقاية للماء ورفادة بالطعام لفقراء الحجيج وسدانة للكعبة، وتشعر بتميزها عن باقي القبائل أن لها شرف خدمة الكعبة والبيت. بالمقابل، تتوافد القوافل من كل مكان، وتقام أسواق تجارية كبيرة لكل السلع، فكان اقتصاد مكة ينتعش في كل موسم. هذا يعني أن تقليص أعداد الحجيج يخفف من تأثير الموسم الإيجابي على البلد المستضيف، لكن السعودية لها أولوياتها، وقد قدمّت الصالح العام للمسلمين على صالحها، واتخذت في حج العام الماضي وهذا العام إجراءات وتدابير دقيقة ليكون حجاً آمناً، رغم التكلفة الكبيرة لإجراءات التعقيم والتباعد وتنظيم الوفود وتنظيم إقامتهم، فأكبر منافع الحج سلامته.
في السعودية أقيم فرض الحج مع كامل الاحترازات، وتقام الصلاة في مساجدها بتباعد بين المصلين ومراقبة الالتزام بالإجراءات، هذا بلد لديه حكومة عاقلة، متمدنة، متقدمة، تحترم كل العلماء، سواء أكانوا علماء دين أو طبيعة، وتأخذ منهم بثقة كبيرة.