عمل ويعمل الإسلام السياسي في المنطقة العربية كقنبلة فراغية. جعل؛ السُني منه والشيعي، دولاً وكيانات وقضايا عربية مجرد مشاعات فارغة يستثمر فيها الفاعلون من خارج العالم العربي.
آخر عروض المهانة كان وصول وفد تركي رفيع المستوى يضم وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ورئيس الاستخبارات ورئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية ومتحدث الرئاسة، إلى مطار معيتيقة في ليبيا قادماً من صقلية من دون علم السلطات الليبية. وكان في استقبال الوفد ضباط أتراك فقط، في حين طُلب من الحراس الليبيين في قاعدة معيتيقة ألا يكونوا بمكان هبوط الطائرة.
ولمزيد من الاستعراض، شدد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، على موقف بلاده الرافض سحب قواتها من ليبيا، رافضاً أيضاً اعتبارها «قوات أجنبية»! ولئن بدا تجاوز هذا التوصيف ممكناً في حالات أخرى، من باب أنه قد يكون نتاج ضعف في التعبير، إلا إنه في الحالة التركية، تعبير شديد الدقة سياسياً، وهو يصدر عن وزير دفاع، يمثل رئيساً إحيائياً لطالما أعلن جهاراً نهاراً أن ليبيا جزء من الإرث العثماني، وأن الأرض هي أرض أجداده!
الأفدح أن السلطات السياسية في طرابلس الغرب، وجلها مزيج من الإسلاميين والانتهازيين ونخبة الحرب الأهلية، وقلة قليلة من الوطنيين الليبيين، لم تتوقف عند السلوك التركي، بل تناغمت معه في إتمام أركان الزيارة كأن شيئاً لم يحدث!
ذكرني المشهد التركي في قاعدة معيتيقة في ليبيا بمشهد روسي في قاعدة حميميم الروسية في سوريا. التقطت الكاميرات حركة ضابط روسي مرافق لفلاديمير بوتين وهو يمنع بشار الأسد من إكمال سيره إلى جانب الرئيس الروسي، الذي بدا منتشياً (كعادته على كل حال)، وسط ارتباك المسؤول السوري. ضابط روسي يضبط حركة الرئيس السوري في سوريا! وكان سبق ذلك عدد من الزيارات الروسية غير المعلنة إلى دمشق، قام بها عدد من المسؤولين الروس، مثل وزير الدفاع سيرغي شويغو، ولم تعلم بها القيادة السورية حتى لحظة المصافحة.
روسيا ليست إسلاماً سياسياً بالطبع. لكنها وريثة الواقع السياسي الذي أنتجه الإسلام السياسي الشيعي الإيراني في الشام، وهو واقع تمزق وتفتت وانهيار لكل معاني السيادة والكرامة الوطنية، دعك من انهيار معاني الإنسانية، إذا ما حسبنا حجم الكارثة التي حلت بملايين السوريين داخل سوريا وخارجها.
وفي العراق كما في سوريا، حيث الإسلام السياسي الإيراني، متحالفاً مع إسلاميي العراق، أنتج دولة مخلعة وكياناً مشرعاً على كل أشكال التدخل الخارجي. لم تكن صدفة أنه بالتوازي مع الانتهاك التركي في ليبيا كان قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قاآني، يزور بغداد ويفرض على السلطات فيها تسوية انتهت بإخراج أحد أزلام طهران والقيادي في «الحشد الشعبي» قاسم مصلح المطلوب للعدالة بتهم قتل وإرهاب.
عواصم ومدن عربية مشرعة أمام غير العرب؛ أتراكاً وإيرانيين وروساً، بعد أن هدمها الإسلام السياسي من الداخل، وباعها بالمفرق، لكبار تجار الإقليم.
تخيل مثلاً عزيزي القارئ لو أن مصيراً كهذا ذهبت إليه مصر، التي بدأت فيها احتفالات مرور 7 سنوات على ثورة 30 يونيو (حزيران) التي أطاحت حكم الإخوان المسلمين لقلب العرب. تخيل لو أن خامنئي، الذي بدأ بسنّ أسنانه وهو يرى تهاوي حكم الرئيس حسني مبارك، ويتحدث عن «الربيع الإسلامي»، تمكن من النفاد إلى المجتمع السياسي المصري، ومنظومة الحكم والجيش والأمن والاقتصاد. تخيل لو أن تركيا، التي تبعث الآن بكل إشارات التقارب إلى القاهرة والخليج، ما فشلت في مشروع التحريض الإعلامي والسياسي على مصر ونظامها والقيادتين السعودية والإماراتية. تخيل لو أن التنبه الخليجي لدعم مصر والوقوف معها سعودياً وإماراتياً، تأخر بما يكفي لتتاح لـ«الإخوان» فرصة إحكام قبضتهم على مصر... كنا نتحدث الآن عن ممر للإسلام السياسي من إيران وتركيا عبر العراق وسوريا وغزة إلى قلب العالم العربي في مصر؛ بموقعها، وتعداد سكانها، ومنها نحو ليبيا والمغرب والجزائر... تخيل حينها ما كان سيكون عليه واقع الخليج العربي المستهدف بكل مستويات وأشكال الاستهداف من بعض طوقه غير العربي، والمستثمر في شتى أنواع تشكيلات الإسلام السياسي.
واقع الأمر أن الإسلام السياسي لم يفرغ مدناً ودولاً من معطيات الصحة والسيادة، بل أوصل إلى امتهان القضايا الكبرى للعرب.
هل هي صدفة أنه بالتوازي مع الامتهان التركي لليبيا والإيراني للعراق أن نرى وفداً من حركة «حماس» يهدي للحوثي درعاً تكريمية غداة انتهاء حرب غزة، التي ما كان للحوثي أي دور فيها؟ جرت العادة أن الفصائل الصغيرة، كالحوثي، تتبرك بالعنوان الفلسطيني وتسعى عبره لزيادة وزنها وحضورها. مع «حماس»؛ بات عنوان «القضية الفلسطينية» عنواناً ملحقاً بكل القضايا، التي لا فرق بين عزيزها وخسيسها، ومادة توظيف في قضايا تحمل كل معاني العدوان على دول وأنظمة عربية.
ففي حين تسعى مصر لتحويل وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» إلى اتفاق سياسي ينطوي على هدنة طويلة، وشروط تسمح للفلسطينيين باستئناف حد معقول من شروط الحياة الكريمة، تذهب «حماس» باتجاه الحوثي، الذي يعمل بصفة مخلب إيراني على حدود المملكة.
هل هي صدفة أن كل هذه المشهديات المتزامنة، هي مشهديات تطاول غير العرب على العرب بأدوات الإسلام السياسي العربي؟