في يومي الأحد والاثنين (6 و7 يونيو/ حزيران 2021) أقِرُّ بأنني فوجئتُ مفاجأة أكبر من مفاجآت الحرب على القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وسلوان... إلخ، فقد شاهدتُ على الفضائيات: «البعثة» الحماسية في صنعاء تقدّم درعاً لمحمد علي الحوثي، بعلّة نُصرة الحوثيين لفلسطين، ونضالاتهم، نعم نضالاتهم، لحماية المقدسات الإسلامية! والمفاجأة هنا متعددة النواحي والمناحي. فلا أحد يعرف ولا المنجّم يدري بنضالات الحوثيين من أجل المسجد الأقصى وفلسطين، وإلى غزة، وإلاّ فليقل لنا الحماسيون أين وكيف، إلا إذا عنوا بذلك شعارهم الشهير: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل. وقد رأيتُ هذا الشعار رأْي العين لآخر مرة في صعدة عام 2004 إبان حربهم الأولى على الرئيس علي عبد الله صالح. وقلتُ لحامل إحدى الرايات: لكنكم مختلفون مع الرئيس اليمني ولا شيء من حولكم يشير إلى تحدٍّ أميركي أو إسرائيلي؟! فتلبّث قليلاً كأنما يريد أن يسأل أحد قادة حركة «الشباب المؤمن»، لكنه قرر إجابتي عندما لم يعثر عليه: ما اسمك يا رجل؟ ولما ذكرت له اسمي قال ونحن: يا رضوان علي عبد الله صالح هو أميركا وإسرائيل معاً، ثم إنّ السيد نصر الله انتصر بهذا الشعار، ونحن سائرون على خطاه، أفلا تستحي من السؤال؟!
المفاجأة الثانية أو الثالثة أن لـ«حماس» (وربما لـ«الجهاد الإسلامي») بعثة أو ممثلاً مع الحوثيين بصنعاء، وبالطبع أرسلتهم إلى هناك قيادة سليماني كما أرسلت بعثات وكتائب «حزب الله»، أولم يقل نصر الله في عز العدوان الحوثي، إن الحرب باليمن على السعودية أهمُّ من الحرب على الثورة السورية، بل وأهمّ من الحرب على إسرائيل؟! إنّ المفاجأة الرابعة أو الخامسة في هذا المعرض أنّ قادة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في لبنان كانوا (في الأعوام 2012 – 2015) يأتون إلينا شاكين باكين من النظامين السوري والإيراني اللذين أقفلا مكاتبهما في دمشق، واغتالا بعض عناصرهم، لأنهم رفضوا القتال ضد الشعب السوري كما فعل أحمد جبريل، وبعد أن كانوا يستطيعون الاجتماع بسليماني عندما يطلبون، ما عاد ذلك ممكناً، وانقطع عنهم الدعم المادي، وهم يعانون من المجاعة (!) بعد طول إعزازٍ واحتضان. فالذي يبدو أو يغلب على الظن أنهم بعد عام 2015، وقد جاء الروس بعد الإيرانيين لنجدة النظام السوري، عادوا إلى حضن طهران. قلتم لنا إنكم لم تريدوا قتال السوريين لأنهم لم يسيئوا إليكم بل احتضنوكم، فبماذا أساء إليكم الشعب اليمني؟! وبالمناسبة بعد خروج الفلسطينيين من لبنان عام 1982، مارأيتُ لهم مخيمات إلاّ في صنعاء وعدن، وثاني مرة في حياتي رأيتُ فيها أبو عّمار رأيتُه في اليمن يزور الفلسطينيين هناك، ويحتفل بذكرى الثورة اليمنية، ثم قيام الوحدة!
لقد بدأت أُدرك هول المُصاب المضاعَف الذي يوشك أن ينزل بنا نحن العرب، عندما سمعتُ خطاب إسماعيل هنية في الدوحة، وهو يشكر إيران، ويخصُّ بالذكر عبد الملك الحوثي! ولا شكّ أنّ ذلك كان بطلبٍ إيراني. ثم إذا بـ«حماس» ولـ«حماس» بعثة أو ممثّل بصنعاء المحتلّة أُمر بالظهور علناً للمرة الأُولى لامتداح «جهاد» الحوثي الموهوم وغير المعلوم من أجل المقدسات في فلسطين.
كلُّ آمالكم أيها الموهومون العرب أنّ الفلسطينيين من خلال قتال يحيى السنوار أخذوا راية فلسطين من إيران و«حزب الله» لا مستند لها، ويُضافُ إلى أحلام اليقطة تلك الأحلام بأن دماء أطفال ونساء غزة وحلب وحمص ودرعا يمكن أن يكون لها ثمنٌ لصالح حريتي الشعبين السوري والفلسطيني، توشك أن تتحول إلى كوابيس! إيران لا تزال تمتلك رايات وسطوة الاستعباد والاتجار حرباً وسلماً بمصائر شعوب العراق وسوريا ولبنان واليمـن وفلسطين! يا ناس، حتّى «حماس» تستطيع إيران استخدامها في الدعاية للسلاليين الحوثيين، وفي وجه كل العرب!
وهناك صراعٌ يمكن أن يكون أشد هولاً على المصائر، هو الصراع على الإسلام، مع «الإخوان». أصدرتُ في عام 2004 كتاباً عنوانه: الصراع على الإسلام، قلتُ فيه بعد طول استعراضٍ وتأمُّل إنه وبعد عام 2001 وغزو أفغانستان والعراق، وصيرورة الإسلام مشكلة عالمية، يصارع على الإمساك بروح الإسلام أربعة أطراف: الجهات الدولية التي تشنُّ حرباً عالمية على الإرهاب السني، وتدعو «المعتدلين» من العرب والمسلمين إلى التضامن معهم لتحرير الإسلام من خاطفيه، والأنظمة العربية والإسلامية التي تريد استعادة الاستقرار بالدواخل، والمؤسسات الدينية التي لا تزال قائمة وتريد استعادة السكينة في الدين، والإحيائيون (كما كنتُ أسميهم) والصحويون الذين يريدون الإفادة من تطرف الإرهابيين ومن توجُّس الأنظمة من جاذبيات المتطرفين لدى الجمهور، للاستثمار فيما صار يُعرف بالإسلام السياسي. وفي كتابي عام 2014: أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي، وفي ذروة شرور الدواعش والقاعديين، ظلَّ همّي للوعي العميق بالخطر أن يتسنَّم الصحويون جاذبيات حركات التغيير الجماهيرية (والعين على ما كان جارياً بمصر منذ عام 2012). ولذلك عقدت في الكتاب فصلاً عن «ولاية الفقيه وولاية المرشد» والتناظر بينهما وإمكان تحالُفهما لأنهما يحملان الفكرتين الأساسيتين: استعادة الإسلام للمجتمعات والدول (بزعم غفلة المجتمعات أو خروجها على الدين)، والكراهية العمياء للدولة الوطنية الحديثة في العالمين العربي والإسلامي. لن يصبح السنة شيعة، لكنّ التشيع كان يحمل راية الجهاد ضد الإمبريالية وضد نظام الدولة الوطنية التي أسقطها في إيران. والآن صارت لـ«الإخوان» راية جهادية في الموطن الذي هو قضية كبرى عربية وإسلامية، كأنما الشعب الفلسطيني الذي يقاتل منذ عشرينات القرن العشرين (انظر حرب البُراق!) قد بدأ نضاله الآن بصواريخ إيران الإسلامية! فإن هذا أمر خطير على العرب الآن. إنما الأخطر حاضراً ومستقبلاً أنّ هناك تنظيماً عالمياً سنياً يملك مشروعاً سياسيا بديلاً لنظام الدولة الوطنية وباسم الإسلام. هو دينٌ سياسي جديد يعرض شرعية ومشروعية باعتباره يمثل استعادة للإسلام في المجتمع والدولة، وهذه المرة ليس رجعياً أو تقليدياً بل هو تجديدٌ إسلامي، ولذلك فكما يخاصم الدول (العلمانية)، يخاصم المؤسسات الدينية التقليدية لأنها لا ترفع راية التجديد والجهاد، وتتعاون مع الأنظمة وتخضع لها!
كان تلميذي وصديقي الدكتور محمد أبو رمان الذي كتب دراساتٍ شديدة الدقة عن الحركات الإسلامية، كلما قرأ لي نصاً عن حداثيات الظاهرة الإحيائية منذ كتابي: سياسيات الإسلام المعاصر (1997) يقول لي: عُد إلى كلاسيكيات الإسلام التي أبدعْتَ فيها ودعْكَ من الإحيائيات (بتعبيرك) فهي ظواهر منقضية! وأرجو أن يكون قد أدرك الآن أنّ أعمارنا توشك أن تنقضي دون أن تنقضي تلك الشعبويات المدمِّرة في الدين والدولة!
نعم، لدينا تقصير وسوء تقدير كبير (مثقفون وعلماء دين وإدارات)، لكن هل كان أطفالنا وشيوخنا وفتياتنا يستحقون بسبب أخطائنا أن يسيطر على مصيرهم ومستقبلهم مسلحو الحماسيين والحوثيين و«القاعدة» و«داعش» و«أحزاب الله» وعبدة السلطة من كل لون؟!
أعان الله مصر المقتدرة، والمملكة العربية السعودية الصاحية والمتوفزة على تجديد تجربة الدولة الوطنية، والإسهام المصمم على إنجاز حل الدولتين، واحتضان الإسلام حتى لا يستولي على روحه الغُلاة المسلَّحون في ديارنا وفي العالم!