شاركتُ قبل ثلاثة أيام عن بُعد في ندوة علمية أقامتها اللجنة الفاتيكانية للحوار مع الديانات الأخرى (برئاسة الكاردينال أيوزو)، موضوعها: «التطرف الديني: المسيحيون والمسلمون في الفهم والتعاون والاستجابة». وقد شارك في الجلسات الست زهاء العشرين متحدثاً من آسيا وأفريقيا وأوروبا، من المسلمين والمسيحيين، واثنان أو ثلاث من أميركا. وفي حين انصرف البعض من الباحثين المشاركين، وبينهم أساتذة ورجال دين وسياسيون (زعيم جمعية نهضة العلماء بإندونيسيا مثلاً) إلى التأريخ والتصنيف، انصرف البعض الآخر بعد التشخيص إلى اقتراح سياسات.
ما انتهت ظواهر العنف وممارساته الناجمة عن التطرف، والدليل على ذلك الأحداث بالعراق وفرنسا وفي دول الساحل الأفريقي ونيجيريا. وفي حين ما تزال المواجهة في هذا الجانب أمنية تقوم بها الجيوش والجهات الشرطية؛ فإنّ الوجه الآخر للظاهرة ذاتها أنّ هناك مرحلة جديدة في استخدام العنف (وباسم الإسلام أو من دون) لأسباب جيوسياسية واستراتيجية، ومن جانب الدول التي صارت تتدخل مباشرة أو تقود ميليشيات ومرتزقة. أما الهمُّ الآخَر الذي يعني الجهات الدينية مثل الفاتيكان والأزهر أكثر، فهو الانكفاء والانعزال الديني وعدم المشاركة في حياة المجتمعات وقيمها. وهذا النوع كان موجوداً من قبل لكنه صار بارزاً وأحياناً غالباً على التوجه الآخر العنيف فيزيقياً وميدانياً. وقد نبّهت إليه الجهات الدينية من قبل. لكنّ الرئيس الفرنسي ماكرون بتصريحاته ومقترحاته للقوانين وإعلاناته أعطى هذه الظاهرة تقدماً بارزاً في التفكير والمواجهة.
هناك نوعان من الميليشيات التي برزت خلال السنوات العشرين الماضية: الميليشيات (المستقلة؟) التي أرادت إنشاء دول، والميليشيات التي أنشأتها الدول لخدمة مصالحها. النوع الثاني من الميليشيات، الذي أشاع التخريب في عدة دول، صارت أعماله صعبة التبرير، وصارت تحركاته خاضعة للمراقبة الشديدة، أو الإعلان عن أنه تنظيم إرهابي. والأبرز في الدول التي تستخدم الميليشيات إيران كما هو معروف. وقد حققت نجاحات (هي تعتبرها كذلك!) فسيطرت على أربع عواصم عربية، كما قال بعض مسؤوليها. وتركيا نجحت حتى الآن في صناعة ميليشيات في سوريا، واستخدمتها في ليبيا وأذربيجان. لكنّ الميليشيات التركية (مثل بعض الذين تستخدمهم روسيا بل والولايات المتحدة) أدنى إلى أن يكونوا مرتزقة؛ في حين يمتلك الإيرانيون لميليشياتهم دعوى دينية ومذهبية ثم استراتيجية. هذا هو الوجه أو الجانب الذي قلت إنه صار يواجه صعوباتٍ كبرى، لا بسبب طموحات الدول في المصير إلى شيء من الاستقرار والاستقلال فقط؛ بل ولأنّ ترتيبات النظام الدولي تميل بالتدريج إلى إخماد هذه النزاعات الداخلية والتدخلية.
فلنذهب إلى النوع الأول من الميليشيات التي أرادت إنشاء دول، وقد فشلت محاولاتها وتسببت في هلاك مئات الآلاف من الناس، وما تزال لها آثار وأفاعيل. لكنّ الضعف الشديد الذي آلت إليه بقاياها بسبب ضياع معظم مواطنها منها، جعلتها عالة على الدول المحيطة، والتي تريد اتقاء الشر أو تطمح للاستغلال. نعم، يمكن الآن لعدة جهاتٍ إقليمية ودولية أن تستخدم مهزومي «داعش» و«القاعدة» وحتى «بوكو حرام»، وتنظيم الشباب الصومالي لإزعاج الخصوم، ولنجدة الأصدقاء، دون أن يبدو كأنّ لها علاقة بالأمر. وقد كان من «الظواهر الجانبية» بالنسبة للمعروف عن السلوك الإيراني خلال عقدين، استخدام «القاعدة» و«داعش» و«طالبان». وكلُّها تنظيمات عنيفة كانت معروفة بالعداء للشيعة ولإيران، لكنهم اليوم أصدقاء، وإن لم يعترف الإيرانيون بالطبع بذلك. أما الأتراك الأحدث في التجربة، فما يزالون يفخرون بالنجاح السريع في ليبيا وأذربيجان، وينسون فشلهم في سوريا. وعلى أي حال؛ فكما كانت مرحلة الصعود للميليشيات العقائدية مشكلة كبرى للدول العربية والإسلامية؛ فإن حالة الضعف والتفكك الحاضرة مشكلة أيضاً. وكما بدأ النظام الدولي يتدخل لسحب ميليشيات الدول العقائدية والارتزاقية؛ ينبغي المصير إلى إنهاء ملف بقايا التطرف العنيف ومنع الدول القريبة والبعيدة من استغلال تراجعه لاستخدامه.
الظاهرة الأُخرى للتطرف (غير العنيف) إذن، هي ظاهرة الانعزال والانفصال عن المجتمعات. وقد أرغم الرئيس الفرنسي - كما سبق القول - الجمعيات الإسلامية على «الاعتراف» بقيم الجمهورية العلمانية، بل وأرغمهم على «الاعتراف» بما لا ينكرونه أصلاً وهو المساواة بين الرجل والمرأة! بيد أنّ هذه الظاهرة - كما أشارت لذلك بحوث المسلمين المشاركين من بلدانٍ إسلامية في ندوة الفاتيكان - لا تقتصر على مسلمي فرنسا والقارة الأوروبية باعتبارهم في الأصل غرباء عن المجتمعات وثقافتها وأنماط عيشها، بل هي موجودة (ظاهرة الانعزال والتوجس والكراهية) في بلدانٍ عربية وإسلامية كثيرة. من الباحثين من قال إنها ردة فعلٍ على متغيرات العولمة التي ما استطاع فريقٌ من الناس وبخاصة النساء التلاؤم معها. ومنهم من قال بل إنها تقع في عمل الموقف السلفي من الحداثة في العالم. فهل يخشى الباحثون أن يدفع هذا الانكفاء إلى تحفزٍ جديدٍ باتجاه العنف؟ اثنان أو ثلاثة (وبينهم فرنسي) قالوا إنهم لا يخشون. لكنّ هؤلاء «الكثيري الزوجات» سيؤثرون على أطفالهم ويعزلونهم أو يشككونهم في المجتمع من حولهم، ولو كان مجتمعاً مسلماً، كما ذكر الإندونيسي رئيس جمعية نهضة العلماء. وليس صحيحاً أنّ الهيئات الدينية عند المسلمين ما عادت لها شعبية؛ بل لها نفوذٌ كبيرٌ في السعودية ومصر وإندونيسيا على وجه الخصوص. ولذلك فإنّ التأهل الذي حصلت عليه المؤسسات الدينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من المِحَن المتوالية، يساعد كثيراً على التصدي لتحدي «العزلة الشعورية» (بحسب سيد قطب!) كما تصدت وما تزال للتطرف العنيف! وإلى ذلك فإنّ الهيئات الدينية يكون عليها أن تتعاون مع الدول في المجال التربوي، حيث ينشأ كل الأطفال على برامج تربوية وتعليمية مشتركة، تحول دون الانعزال ودون الوحشة والانكفاء.
رئيس المعهد البابوي الذي تأمل هذه الظواهر في المسيحية والإسلام معاً، تحدث عن نوعين من التطرف: الراديكالية التي تتدخل بقوة في الشأن العام، والأصولية Fundamentalism التي تركّز على الاستعادة الحرفية للكتابات المقدسة. وقد آلت الراديكاليات إلى الصحويات السياسية والعنيفة؛ في حين تجمدت الأصوليات عند ظواهر النصوص، وآلت إلى الانعزاليات الشعورية وغير الشعورية. وقد اهتمّ العالم بالراديكاليات بسبب تأثيرها المباشر في المجال العام. لكنّ الأصوليات التي يزداد تأثيرها بعد تراجع الراديكاليات، تقتضي هذا الاهتمام المضاعف، وبالتعاون بين المؤسسات الدينية في الديانات الإبراهيمية، والديانات الأُخرى. والنماذج لذلك تجلت في عرضٍ لمطران الكاثوليك بهيوستن، ولراهب يسوعي في جزيرة مينداناو ذات الأكثرية الإسلامية بالفلبين منذ أربعين عاماً، وللدكتور أحمد العبادي رئيس الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب.