في ظروف الأزمات تكون لوليد جنبلاط تصريحات متميزة، وتصرفات متميزة، من مثل الجلوس على شاطئ النهر وانتظار جثة الخصم في مجراه، ومن مثل البرنامج الزراعي لحماية الدروز من المجاعة. وبعد حَدَث انفجار مرفأ بيروت ردَّ على زعيم الحزب المسلح عندما زعم أنه لا يعرف شيئاً عن مرفأ بيروت في الماضي والحاضر والمستقبل؛ فقال له: «كلام السيد غير مُقنع»! وبالطبع فإن أحداً من سياسيي لبنان غير وليد جنبلاط، لا يتجرأ على التشكيك عَلَناً في كلام «السيد المعصوم»، ويا للهول! وأصِلُ أخيراً إلى مقولة جنبلاط فيما يتعلق بسياسيي لبنان والطبقة السياسية؛ قال: نحن فئة انقضى زمانها، ولا بد من بدائل لليوم والغد!
من الصعب اعتبار سياسيي لبنان طبقة أو فئة متميزة، لاختلاف الأصول، واختلاف الأهداف، واختلاف طرائق الدخول والخروج، ونُدرة الاحتراف. لقد كان همُّ السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر (1864 - 1920) في مطالع القرن العشرين صناعة «السياسي المحترف» في الدولة الألمانية الحديثة على النهج الأميركي. وذلك النهج أبرز معالمه عنده وجود الأحزاب الكبيرة التي ينشأُ السياسي فيها ويظل كذلك طول حياته؛ بينما كان الأبرز عند الألمان والأكثر احتراماً؛ الوظيفة العامة أو العمل في إدارة الدولة، والتي كان الشبان الطموحون (من المحامين بالذات) يتوقون لتولّي مناصبها والتدرج فيها، وما كانت الأحزاب السياسية حتى ذلك الحين هي التي تنشّئ الطموحين وتُدخلُهم إلى مناصب الدولة. وهذا - كما قال - مع أنّ الطرفين؛ البيروقراطيين، والسياسيين، إنما يرتزقون من المال العام.
في لبنان، كما في سائر أنحاء العالم، يرتزق العاملون في الشأن العام أو السياسي من المال العام بالطبع. بيد أنّ معظمهم ليس محترفاً بالمعنى الدقيق، لأنه لا يتفرغ للعمل العام؛ بل تظل دائماً لديه مصادر دخل أُخرى. وإذا لم يكن الزعماء السياسيون قد رشّحوه للنيابة والوزارة (بل المناصب الإدارية) كما في حالة الثُنائي الشيعي؛ فإنّ طموحه للعمل السياسي قد لا يكون بسبب إرادته الخدمة في الشأن العامّ؛ بل من أجل حماية مصالحه باعتباره تاجراً أو رجل أعمال. وبسبب هذا الاختلاط الشديد في أصول العاملين في السياسة بلبنان، أُفضّل الحديث ليس عن ظهور الطبقة أو عن زوالها؛ بل أرى أنّ الأَولى الحديث عن التركيبة الحالية للسياسيين اللبنانيين، وما يقومون به من وظائف، لأنّ حالتنا خاصة جداً في العقود الأخيرة بالذات.
هذه الحالة الخاصة للتركيبة السياسية اللبنانية، نبّهنا إلى معالمها الدكتور صالح المشنوق، الذي تخرج في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم درس في هارفارد، وحصل على الدكتوراه من كمبريدج. كتب الدكتور صالح وتحدّث عن تحالف أو تركيبة «الميم ميم» أو الميليشيا المسلَّحة والمافيا السياسية.
وبينهما تبادُلٌ للمصالح وثيق. فالمافيا السياسية (أو الجهاز السياسي العامل في الشأن العام) تُغطّي أعمال الميليشيا كافة، والميليشيا تحميها، بل صارت تفرضها باستثناءات قليلة. وبالطبع فإنّ هذه التركيبة لم تظهر فجأة عندما صعد نفوذ الميليشيا وتفاقم بعد الخروج السوري عام 2005؛ بل تقع أصولها في الحرب الأهلية (1975 - 1990) وحقبة الهيمنة السورية. ذلك أن زعماء الحرب أو الـWar Lords دخلوا في النظام السياسي بعد نهاية الحرب، بنفس الاهتمامات والممارسة، ونظّم السوريون طرائق الاستمرار بحسب درجات الولاء لهم، وما يعتبرونه حفظاً لمصالحهم في سوريا ولبنان. والذين قاوموا ولم يتلاءموا ذهبوا إلى المنافي أو إلى الإقصاء أو إلى القبور. فلمّا خرجوا من لبنان، حلَّ الحزب محلَّ السوريين باعتباره ولي الأمر، والحافظ لمصالح الولي الفقيه في لبنان ثم في المشرق العربي... والعالم. وصار المتمرد على سطوة الميليشيا المسلَّحة مصيره القتل حتماً وليس الإقصاء أو النفي، حتّى استتبّ للميليشيا الأمر تماماً (نحو العام 2014) فتوقف القتل لاكتمال الخضوع أو اتضاح شروط التركيبة. لقد نهب الطرفان موارد الدولة معاً، وكان ذلك يتمّ عند الضرورة بقراراتٍ في مجلس الوزراء أو قوانين في مجلس النواب، أو أوامر مباشرة للبنك المركزي، أو بدون أي شيء عندما لم يعد أحدٌ يجرؤ على السؤال!
الأمر الذي تحدث عنه وليد جنبلاط من حيث فوات زمن الطبقة السياسية، صحيح، إنما لسبب مختلفٍ عمّا ذكره. فحالتنا ليست حالة طبقة تقادم عهدها، وصارت وراثية مثلاً، ولم تعمل على تحديث القوانين، ورفع الكفاءة في الوظائف العامة. لقد حدث كلُّ ذلك بالطبع، إنما ليس بسبب الجمود والتقادم حتى الفساد، بل حالتنا خاصة جداً ولا مثيل لها في العالم، تسيطر وتتحكم ميليشيا مسلحة غير شرعية على الدولة والنظام، ويعمل معها أو لديها سياسيو وإداريو الدولة في مقابل سماح الميليشيا لهم بنهب موارد الدولة أو إشراكهم لها في ذلك. وهذه هي حالة مرفأ بيروت التي أدَّت إلى انفجاره بمن فيه وبما فيه. فالمرفأُ مقسَّمٌ إلى عدة أقسام، ولحزب الزعيم سيطرة مباشرة على قسم أو قسمين يجري فيهما تخزين السلاح والمواد الأولية لصنع أنواع فتاكة منه، وأطنان نيترات الأمونيوم، والمستوردات غير الشرعية التي لا تمر على الجمارك. أما بقية المرفأ والذي تخضع السِلَع الداخلة إليه للجمارك، فهي مقسّمة إلى عدة أقسام؛ قسم للعونيين، وقسم للطرف الثاني في الثنائي الشيعي، وقسم للدولة، وهو لا يتجاوز الثلث. وبالطبع فإنّ إدارة المرفأ - شأن سائر المرافق - شديدة السوء. لكنّ العنابر رقم 12 و9 أو5 ليس لها إدارة على الإطلاق. بل يتحكم بها الحزب مباشرة.
ولذلك ضربتها إسرائيل بالتأكيد، إنما الشكوك هل كان ذلك من طريق التخريب الداخلي أم من طريق الطيران! نتنياهو قال يوم 11-8-2020؛ الحزب يخزّن السلاح في المرفأ والمطار وبين المدنيين في العاصمة! لقد خشيتُ على المطار لأنه ذكره، وهناك رُبع مليون لبناني على الأقلّ يعرفون أن الحزب المعصوم يسيطر على أمن المرفأ والمطار، وبعض أرضهما، أَوَليس ذلك من حق «المقاومة» الحامية للبنان؟! وهكذا تكون الحماية وإلا فلا! وآخر الطرائف التي لا يستطيع وليد جنبلاط أن يطلقها؛ إصرار الحزب الرادع بل الهازم للعدو الصهيوني أن إسرائيل ليست هي التي تسببت في انفجار المرفأ!
هل هناك قدرة للجديد في الدخول على النظام اللبناني؟ هذا أمر بسيط في سائر الدول وتكفي لإحداثه الانتخابات الحرة. وفي إيطاليا ضرب القضاء المافيا الإجرامية والسياسية.
أما في حالتنا الخاصة جداً فإن زوال المافيا السياسية أو تغيرها رهنٌ بزوال الميليشيا المسلَّحة، التي كان الرئيس عون - أطال الله عمره - قد بشرنا بأنها باقية لنهاية أزمة الشرق الأوسط! ولستُ أدري إذا كان الرئيس ما يزال مقتنعاً بالسبب الآخر لبقائها، وهو «حماية لبنان» من إسرائيل لأنّ الجيش ضعيف! إن الذي يبدو لي أن الحزب لا يعتبر مرفأ بيروت من لبنان، إلا لكان قد حماه أي حماية!
قال معروف الرصافي:
من أين يُرجى للعراق تقدمُ
وسبيل ممتلكيه غير سبيلهِ
لا خيرَ في وطنٍ يكون السيف
عند جبانه، والمال عند بخيلهِ
والرأي عند طريدِه، والعلمُ عند
غريبه، والحكمُ عند دخيلهِ