اعتبار الرئيس التونسي قيس سعيد «ديغول» تونس من باب التشبيه بقوة شخصية الزعيمين، وبصلابة مواقفهما السياسية المستمدة من الإرادة الشعبية عبر انتخابهم المباشر من شعب البلدين، يجعلهما في مركز القوة والثقة في مواجهة الاحزاب السياسية.
فكلاهما، برغم ايمانهما بالخيار الديمقراطي، والاحزاب السياسية هي احد مظاهر الأنظمة الديمقراطية، الا ان الاحزاب السياسية - من منظور الجنرال شارل ديغول على الاقل - تعطي الاولوية لمصالحها الحزبية قبل مصلحة الوطن، فهي تتردد وتخشى تبني سياسات معينة تكون في ظروف ما ضرورة تبنيها للخروج من أزمات اقتصادية او اجتماعية، خوفاً من ان تؤدي تلك السياسات الى خسارتها اصوات زبائينها من الناخبين.
الفارق الجوهري بين الشخصيتين، في اطار هذه المقاربة، هو أن ديغول رجل عسكري، بينما قيس سعيد رجل مدني، واستاذ من كبار فقهاء القانون الدستوري في بلاده، وشخصية مستقلة.
عندما عرفت فرنسا في ظل الحمهورية الرابعة عدم استقرار سياسية وتوالي سقوط الحكومات التي يتم تشكيلها، واجه هذه المعضلة عند تأسيس ديغول للجمهورية الخامسة باعداد دستور جديد يعالج تلك الاختلالات عبر اعطاء صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية امام السلطة التشريعية، من هنا اكد الرئيس قيس سعيد في حملته الانتخابية للرئاسة بضرورة تبني دستور جديد، بديلاً عن دستور 2014، الذي تم اعداده من قبل المجلس الوطني التأسيسي في حقبة سيطرة حركة النهضة بـ89 مقعداً على المجلس.
وقد عمد الدستور الجديد الى تهميش صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح نظام برلماني معدل. وكان من الطبيعي للرئيس قيس سعيد ان يسعى الى اصلاح النظام السياسي في البلاد، عبر البدء بتعديل الدستور النافذ، وهو ما كتبته في هذه الصحيفة بتاريخ 24 اكتوبر الماضي بعنوان «تونس .. نحو دستور جديد يتفق ورؤى الرئيس الجديد»، إضافة الى ضرورة تغيير النظام الانتخابي والتمثيل النسبي الذي تطرقت اليه ايضاً في مقال في هذه الصحيفة بتاريخ 15 اكتوبر الماضي تحت عنوان «تونس … ظلال الانتخابات الرئاسية على الانتخابات التشريعية»، وقد عبر عن ذلك مجدداً الرئيس التونسي في حواره مع قناة «فرنس24» عن عزمه على المضي قدماً في تعديل دستور البلاد الى جانب تعديل القانون الانتخابي.
وفي انتظار توفر الظروف المواتية للقيام بذلك، كان على الرئيس قيس التعامل مع الواقع الراهن.
وأرى شخصياً ان الرئيس قيس سعيد لديه قدرة في المناورة والتكتيك، حسب بعض تعبيرات السياسين ومعرفته استثمار نصوص الدستور، اظهر براعته عند اختيار اسماء المرشحين لرئاسة الوزارة لتشكيل الحكومة. فقد قبل مرشح رئيس البرلمان راشد الغنوشي من حزب النهضة السيد الحبيب الجملي في نوفمبر 2019، على تسميته لتشكيل الحكومة، والتي لم تستطع الحصول على ثقة البرلمان، وهو الامر الذي اثار دهشة بعض المراقبين، ان لا يحصل مرشح اكبر الكتل البرلمانية على الثقة، ومرد ذلك في الحقيقة يعود الى نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي افرزت تراجع عدد مقاعد حزب النهضة الاسلامي الذي حصل في عام 2011 على 89 مقعداً، ثم انخفضت عدد مقاعده في البرلمان الى 69 مقعداً في 2014، ليصل في 2019 الى 52 مقعداً، مما جعل من الضروري حصول الحركة على اصوات الكتل الاخرى، ليكتمل الحد القانوني للتصويت لاعطاء الثقة للحكومة.
ويبدو ان التفاهمات التي جرت بين حركة النهضة مع حركة «قلب تونس» الكتلة البرلمانية الثانية للتصويت لصالح حكومة الحبيب الجملي، قد تراجعت عن ما اتفق عليه بينهما، وهذا يعني دستورياً ان يعود ذلك الى رئيس الدولة اختيار رئيس الحكومة الذي يراه «الأقدر على ذلك» حسب النص الدستوري.
وبناءً على ذلك قام الرئيس مباشرة بتسمية السيد الياس الفخفاخ، لتشكيل حكومة جديدة خلال شهر غير قابل للتجديد.
وقد شكل تعيين الياس الفخفاخ مفاجأة كبيرة للبرلمانيين، لأنه لم يكن من ضمن قائمة المرشحين الذين ارسلوا لرئيس الدولة، وخاصة انه كما اشار البعض لم يكن من مرشحي حركة النهضة وحركة «قلب تونس»، مما اعتبره بعض المراقبين ان الرئيس قصد ذلك، كي لا تحصل الحكومة على التصويت بالثقة، مما يضطره الى حل البرلمان، وهو اكثر ما يزعج البرلمانيين بخوض الانتخابات مجدداً، واحتمال عدم فوزهم في الانتخابات مجدداً، ولهذا حصلت حكومة الياس الفخاخ على الثقة من البرلمان، ولكنه اضطر الى الاستقالة بعد فترة وجيزة في وقت سابق من الشهر الحاري، عقب اتهامات بتضارب المصالح.
وبناءً على ذلك كرر رئيس الدولة باختيار رئيس وزراء جديد خارج قائمة المرشحين التي رفعت اليه من قبل احزاب البرلمان، بتكليف وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة هشام المشيشي تشكيل حكومة جديدة. وهو شخصية مستقلة عمل قبل انضمامه الى حكومة الفخفاخ مستشار أول لدى رئيس الدولة مكلفاً الشئون القانونية.
وجاء هذا التكليف لرئيس وزراء جديد بعد ان تبيَّن لرئيس الجمهورية أن حركة النهضة لم تعد تقبل استمرار الفخاخ لرئاسة الوزراء، وما تبع ذلك من فوضي وصراعات بين الكتل البرلمانية وصلت الى حد تعطيل اعمال البرلمان أسبوعين، ولعل مغزى خيار الرئيس قيس سعيد لوزير الداخلية السابق، يتوافق مع ما اشار اليه من وجود مؤامرات خارجية على تونس بالتعاون مع قوى داخلية. كما ان الازمة الليبية، والتدخل التركي بدعم احد اطراف الازمة، يضعانتونس في موقف حرج في كيفية الحفاظ على موقفها المحايد في الازمة.
وقد خول الدستور النافذ في الفصل (77) رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية، والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة. ويتولي ايضاً الرئيس القيادة العليا للقوات المسلحة. لهذا السبب فإنَّ متطلبات المرحلة جاءت باختيار وزير الداخلية السابق، ليكون رئيس الحكومة ويشكل الحكومة الجديدة.
تونس ستدخل من دون شك مرحلة جديدة في تاريخها، ولعل تغيير الرئيس قيس سعيد النظام السياسي الحالي يكون مقدمة لدخول تونس في جمهورية ثالثة جديدة، كما كان قدوم الرئيس شارل ديغول الذي أدخل فرنسا في الجمهورية الخامسة والتي انطلقت منها فرنسا الجديدة.