بين محرر «نيويورك تايمز» وفتاة «تيك توك»

الثلاثاء 14 يوليو 2020 5:10 م

تتسيد ثقافتا الصحوات والإلغاء صناعة المشهد العام في أميركا؛ ومنها وعبرها في العالم.

الصحويون، المتحدرون في الغالب من خلفيات ثقافية يسارية، يعيدون قراءة التاريخ من موقع التكفير عن الذنوب. المشهد الأبرز هو مشهد ركوع البيض أمام السود في أميركا طلباً للغفران (!) بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد على يد شرطي أبيض بوحشية غير مسبوقة. الصحويون بهذا المعنى يقرون بمسؤوليتهم المعنوية التاريخية عن أخطاء ارتكبت قبل ولادتهم بمئات السنين، وينخرطون في دوامة تبدأ بما يشبه «صلاة اعتراف» ولا تنتهي بالتدمير الجنوني لتماثيل ونُصب تجسد شخصيات في التاريخ الأميركي اختلطت سيرها بما هو مدعاة إدانة حاسمة اليوم، كتجارة العبيد على وجه الخصوص.

أما ثقافة الإلغاء فتنهض على انتحال «التقدميين» مُثلاً عُليا حول المساواة والحقوق المدنية، لخدمة آيديولوجيا ثورية جديدة تسعى لتنميط الخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي وتوحيده، لا على الأسس النسبية للخطأ والصواب؛ بل على أسس أخلاقية سامية مطلقة تزين الأفكار بميزان الخير والشر.

وقد وجدت دوائر الأكاديميا والصحافة ومراكز الأبحاث نفسها تسقط في هذا الجحيم السحيق لثقافة الغضب والتفوق الأخلاقي، مدفوعة إلى حتفها بسبب هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وطغيان صحافة ما تسمى العدالة الاجتماعية وإعلام الحقيقة، مقابل الإعلام الموضوعي، وهو إعلام بات يشبه نظاماً صارماً للمراقبة وشرطة ثقافية وأخلاقية تتحرك بآليات الأحكام المبرمة والسريعة والوصم والتشهير، لا بآلية جولات النقاش وترسانات الحجج.

في هذا السياق؛ شنت قبل أسابيع حملة شعواء على محرر الرأي في صحيفة «نيويورك تايمز» جيمس بينيت أدت لاستقالته، لأنه تجرأ على نشر مقال للسيناتور الجمهوري توم كوتون دافع فيه عن استخدام الجيش قمع أعمال الشغب التي نشأت عن مقتل جورج فلويد.

ذنب بينيت أنه أتاح لسيناتور ولاية أركانسو أن يعبر عن رأيه ببنية المظاهرات بعد مقتل فلويد وأن يشير على وجه الخصوص إلى الدور الذي تلعبه مجموعات يسارية متطرفة في خلق مشهديات العنف والحرق والتكسير والفوضى، معروفة باسم «أنتيفا». لم يُعَدّ نشر المقال خروجاً عن العقيدة الليبرالية للصحيفة فحسب؛ بل بالغ زملاء بينيت في حسبان أن نشره المقال يشكل تعريضاً لحياة زملائه الصحافيين السود للخطر الذين قد ترديهم رصاصات التمييز العنصري من شرطي أبيض، في تحريف كامل لوقائع ما يحصل اليوم في أميركا. فالشرطة ليست بيضاء، وهي لا تطارد السود بصفتهم سوداً رغم الحادث الشائن الذي أودى بحياة فلويد.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر