ذُهلت مي خريش، نائبة رئيس «التيار الوطني الحر» للشؤون السياسية، من قول المحاورة لها، إن حزبها يحكم لبنان، في معرض مساءلتها لها عما حققه الحزب من إنجازات. استنكرت السياسية الصاعدة أن «يُكتفَى» بأن يكون مؤسس الحزب هو في الواقع رئيس الجمهورية الحالي، ليقال لها إن حزبها يحكم لبنان.
ما لم تكن رئاسة الجمهورية دليلاً على الحاكمية، فماذا يكون الدليل عندها، في نظام سياسي برلماني يقوم ولو على حد متدنٍ من قواعد الانتخاب وتداول السلطة؟
رفض السيدة خريش تحميل حزبها أي مسؤولية عن نتائج السياسات العامة، بحجة أنهم لا يحكمون، هو امتداد لثقافة سياسية من ركيزتين، ركيزة أولى تعتبر أن الحكم مع آخرين في نظام تشاركي مساوٍ عملياً لانعدام الحاكمية. وفق هذا التصور، لا تتحقق الحاكمية ما لم يحكم رئيس الجمهورية وحده ومن دون منغصات تفرضها آليات الحكم في الأنظمة التشاركية، وبصلاحيات موسعة لا تخضع إلا بالحدود الدنيا لضوابط دستورية تحد من انفلات رغبات وشهوات وخيارات الرئيس الفرد.
فعندما تقول خريش إن حزبها لا يحكم، هي في الواقع تعلن من حيث لا تريد عن هذه الثقافة السياسية التي ترى الحكم تفرداً خالصاً، وتضع المشاركة مع الآخرين في خانة تقييد الإرادة وتنغيص العيش، في ظل التسويات وتدوير الزوايا. وهو رأي يقع في صلب اللغة السياسية التي بات يكثر من استخدامها رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير السابق (هل هو سابق فعلاً؟!) جبران باسيل، تحت مسميات اللامركزية المختلفة، وتوسعة ثقافة الحكم الذاتي، والانعزال عن الآخر الذي «لا يدعنا نعمل» و«لا يدعنا ننجز».
أما المرتكز الثاني للثقافة السياسية التي عبَّرت عنها السيدة خريش، فهو التنصل الدائم من مسؤوليات الحكم، مع الاحتفاظ بكل امتيازات الحاكمية ومكتسباتها. فلا تريد السيدة خريش أن يُسأل حزبها عن رصيد الإنجازات أو عن الوعود غير المحققة، بدعوى أن حزبها لا يحكم. هي نفسها من تخاطب قاعدتها الحزبية المسيحية بأن ضمانتها السياسية والاجتماعية تكمن في وجود الرئيس ميشال عون في موقعه على رأس نظام الحكم.
هذا الازدواج هو تعبير مقلق عن خلل خطير في عمل السياسة، كآلية للإدارة السلمية للشأن العام، تقوم أولاً على فكرة المسؤولية والمحاسبة. وهو أبعد من تصريح انتهازي لسياسي تهرب من سؤال محرج في مقابلة حية على الهواء. ما نحن بإزائه هو تصعيد إلى الواجهة لواحد من ملامح الاتجاه العام نحو دولة فاشلة، محكومة بالتوافق بين أصحاب مصالح خاصة، بلا أي التفات جاد إلى متطلبات المصلحة العامة.
بعد أيام من ذهول السيدة خريش أمام سؤال المحاورة، تراجع مجلس الوزراء اللبناني عن قرار كان اتخذه بعدم تضمين معمل كهربائي في منطقة سلعاتا؛ حيث يريد باسيل، وحيث يجمع الخبراء على أن لا حاجة للمعمل، ولا بنية تحتية قائمة تسمح بتفعيله وتشغيله والاستفادة منه. طلب رئيس الجمهورية إعادة فحص القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء وجرى التراجع عنه، ليتحقق بذلك مطلب مزمن لباسيل، لطالما عطل وأربك ملف إصلاح القطاع الكهربائي في لبنان الذي استنزف أكثر من نصف الدين اللبناني العام.
نائبة رئيس الحزب تشكو من أن حزبها لا يحكم، في حين يتدخل رئيس حزبها في تعديل تصويت مجلس الوزراء لصالح رؤيته في البند موضع النقاش.
الاثنان بواحد! مثل مي خريش، أطل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، بمقابلة على اللبنانيين، في الذكرى العشرين لانسحاب إسرائيل الأحادي من جنوب لبنان. ما قاله نصر الله ليس بعيداً عن ثقافة خريش، نائبة رئيس الحزب المتحالف معه منذ عام 2006. بأعلى درجات التواضع المزيف، قال نصر الله: «إذا أجمع اللبنانيون على إعطائنا فرصة لحكم البلد، فسنرد عليهم بالقول: مشكورون، لا نريد حكم البلد».
حتى نصر الله لا يريد حكم لبنان! من يحكم هذا البلد التعيس إذن، الذي تفاقمت تعاسته منذ أن أوصل «حزب الله»، ولا أحد غيره، الرئيس عون إلى سدة الحكم، من دون أي قدرة على إحداث التوازن في وجه معادلة «حزب الله» - عون، لا داخل النظام ولا خارجه؟
وما هو تفسير الحاكمية بالنسبة لـ«حزب الله»، حتى يدعي بكل هذا اليسر أنه لا يحكم ولا يريد أن يحكم لبنان؟
فمن المعروف أن قرار لبنان الدفاعي والخارجي وكثيراً من القرارات السياسة الداخلية تتقرر وفق تصور «حزب الله»، أو وفق التصور الأقرب إلى تصوره، حين يبدي مقداراً شكلياً من المرونة والقابلية للتسوية. يشمل ذلك قرارات كبيرة من نوع التطبيع مع النظام السوري، أو اقتراحات ساذجة وعمومية حول تعديل النمط الاقتصادي في لبنان، أو توزيع حصص القوى السياسية داخل الحكومة.
كما التيار العوني، والأكيد لأسباب مختلفة وأكثر نضجاً واستراتيجية، يريد «حزب الله» كل مكتسبات الحكم، من دون أي من مسؤولياته في الحيزين المحلي اللبناني والدولي. فهو يحرص في كل لحظة على استنكار أي قول يفيد بأنه يحكم لبنان، ويعلل ذلك بأن أصحاب هذا الرأي إنما يضمرون إيذاء البلد و«حزب الله» معاً، عبر تحريض المجتمع الدولي.
يعرف «حزب الله» أن حاكميته المباشرة للبنان ستحيل البلد فوراً إلى كوبا أو غزة. لذا يفضل أن يمارس نفوذه في لبنان عبر وسطاء، كما تمارس إيران نفوذها في المنطقة عبر وسطاء.
الواقع أن البلد يحكمه «حزب الله» عبر عون وآخرين. وحتى حين يتوافق مع من يختلفون معه سياسياً، يحرص على إبقاء يده الطولى واضحة، بما يحيل حلفاءه وخصومه على حد سواء إلى مجرد أدوات في مشروعه. وإذ يلحظ ارتفاع منسوب الاستقلالية أو التفلت عند أي من مكونات النظام الحاكم، يعمل على تدجينه، كضرب صورة وسمعة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مؤخراً، أو اغتيال اللواء وسام الحسن الرئيس الأسبق لشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي قبلاً، بعد نجاحه في إنتاج قوة أمنية فاعلة مستقلة عن نفوذ «حزب الله»؛ بل وذاهبة بعيداً في التكامل مع النظام الأمني الدولي.
«حزب الله»- عون، وحدة نظامية متكاملة تحكم لبنان. هذا ما ينبغي فهمه ثم التعامل مع لبنان على أساسه، بما يجعل لبنان الساحة الأمثل للاستفادة من قدرات «قانون قيصر» وتوسعة الرقعة القادر على استهدافها خارج سوريا، لتطال كامل مرتكزات محور إيران.