قرابة خمسة عقود مضت منذ بدأت الاجتهاد في البحث عن أسباب فشل المخابرات الأميركية في التنبؤ بالهجوم المصري السوري المشترك على القوات الإسرائيلية في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. كانت الحرب موضوعاً للدكتوراه، ولما كانت الرسائل من هذا النوع تتطلب البحث في أصول المسائل فإن مفهوم «المفاجأة» كان تاريخياً وموضع اهتمام علماء السياسة، وكان أكثر الحالات المدروسة يتعلق بالولايات المتحدة التي فشلت مخابراتها (يوجد لدى الولايات المتحدة فيما هو معلوم 16 جهازَ مخابرات) كثيراً في توقع الهجوم على «بيرل هاربر» الذي دخلت بعده الدولة إلى الحرب العالمية الثانية. الموضوع بات غنياً كلما أُضيفت حالات مماثلة حول فشل مخابرات الاتحاد السوفياتي في توقع العملية «باربروسا» التي كانت الهجوم الألماني على الدولة في ذات الحرب؛ وبعد ذلك فإن قائمة الفشل طالت لتشمل نشوب الثورة الإيرانية، وانهيار الاتحاد السوفياتي ذاته، والصعود المثير لـ«داعش» حتى أقام خلافته المزعومة. ولعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 كانت الأكثر صدمة لأجهزة المخابرات الأميركية، حيث كان الهجوم على أميركا في عقر دارها، وفي أبرز مدنها «التفاحة» نيويورك وعاصمتها واشنطن.
وفي تقرير لجنة الكونغرس للتحقيق في الحدث الجلل فإن سمة من سمات المفاجأة أن «النظام كان يومض كله باللون الأحمر» محذراً من الواقعة ولكنها وقعت. مثل هذه الكلمات كانت موجودة في كل المفاجآت السابقة، كانت هناك علامات وإشارات وحتى تحذيرات صريحة، ولكن النظام فشل في تصديقها أو الأخذ بها. وفي 25 مارس (آذار) المنصرم نشر ميكا زينكو مقالاً في دورية «السياسة الخارجية» بعنوان: «فيروس (كورونا) هو أسوأ فشل مخابراتي في تاريخ الولايات المتحدة؛ إنه أكثر من بيرل هاربر و9-11، وكل ذلك هو خطأ قيادة دونالد ترمب». قبل ذلك بشهر تقريباً في 28 فبراير (شباط) الماضي كتب كين دلينيان في موقع «NBC News» مذكّراً بمرات الفشل السابقة للمخابرات المركزية بأنه قد جرت بالفعل تحذيرات مسبقة من هذه الأجهزة من إمكانية حدوث وباء كوني مصدره الصين. وفي 2 مارس المنصرم كتب تال إكسلرود في نشرة «The Hill» التي تصدر عن الكونغرس الأميركي أن تحذيرات كثيرة صدرت عن هذه الأجهزة تحت عنوان «تحذيرات من مجتمع المخابرات».
الملاحظة الأولى التي تردّ على كل ما سبق هو أن العالم كله، وليس الولايات المتحدة وحدها، أخذه الوباء بالمفاجأة التي تتبعها عادةً قرارات غير ناضجة؛ فالمشهد الصيني في بداية الأزمة لم يكن ناضجاً بما فيه الكفاية، وكان الثمن عدداً كبيراً من الضحايا وأشكالاً كثيرة من الشلل الذي جرى تجاوزه بعد ذلك بجرأة وشجاعة كبيرة. ولا كان المشهد الإيطالي أو الألماني أو البريطاني أو الفرنسي أو الإسباني أو الأوروبي بصفة عامة بالأكثر استعداداً أو معرفةً بما سوف يأتي. الهند استيقظت متأخرة جداً على كارثة كبرى بات صعباً مواجهتها؛ وفي العالم العربي كانت هناك حالة من الارتباك لم يجرِ الاستيقاظ منها إلا بعد أن ظهرت حالات مرضية بالفعل في كل دولة. لم يكن العالم مستعداً لمواجهة الوجه الآخر للعولمة غير المسبوقة في النظام العالمي بما فيه من شبكات اتصال وإنتاج وانتقال وسفر واختلاط وفيروسات. كان الاقتصاد والثقافة والسياسة الأكثر في الاهتمام والتركيز؛ وحتى عندما بدا كأن الكوكب المهدد بالاحتباس الحراري معرّض للخطر فإن الاعتقاد الشائع كان أن الخطر متخيل أكثر مما هو واقع قريب. الوباء من «الطاعون» إلى «إيبولا» وما بينهما أنتج انطباعاً بأنه على الأغلب ينحصر في منطقة بعينها؛ وأن الآليات الدولية أصبحت الآن مستقرة على قدرة الحصار وإنتاج اللقاح والدواء.
الملاحظة الثانية التي ترد على ما سبق تأتي من أدب «المفاجآت الاستراتيجية» المشار إلى الكثير من أمثلتها الشهيرة، وكان الدرس منها له جانبان: أن معلومات وتحذيرات كانت متوافرة؛ وأن من كان بيدهم القرار إما أنهم لم يهتموا بما جاء لهم وإما أن تفسيرهم لها كان قاصراً بشدة فجاء رد الفعل متأخراً وبثمن فادح. الأدب هنا يشير دوماً إلى ما يسميها «الضوضاء» التي تشوش على المعلومات وتخرجها من سياقها وتقلل من قيمتها. باختصار كان العالم مشغولاً بنقد العولمة ونقضها، كما كان مهتماً بالتحولات الكبرى في العالم نحو «الهوية» والدولة «القومية» التي تقيم الأسوار والحوائط وتقطع ما تقدر عليه من جسور؛ وظللت على السياسات الدولية الحرب الباردة الصينية الأميركية في التجارة والإمارة على الكون، وانشغلت قيادات دول وزعامات بكل ما هو شعبوي وحافل بالحماس والتعصب. وسط ذلك كله لم تكن «الصحة» غائبة تماماً عن الصورة، بل إنها كانت حاضرة في انتخابات أميركية وغير أميركية، ولكن الوباء والبلاء ربما كان على الأغلب من قضايا العالم الثالث!
الملاحظة الثالثة أن العالم هذه المرة وسط مآسي الفيروس كان بلا قيادة تقريباً. وفي 20 مارس المنصرم نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» مقالاً ليوفال نوح هراري، بعنوان: «العالم بعد فيروس كورونا» ذكر فيه أن عُقدة العُقد تدور حول من يقود التعاون الدولي لمواجهة الأزمة العالمية «ففي الأزمات العالمية السابقة -مثل الأزمة المالية عام 2008، ووباء إيبولا 2014- تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأميركية الحالية تخلّت عن منصب القائد. لقد أوضحت أنها تهتم بعظمة أميركا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية. وإذا لم يتم ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قِبل دول أخرى، فلن يكون من الأصعب بكثير إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة». المعضلة هنا أنه عندما يكون الحديث عن دول أخرى لقيادة العالم، فإنَّ الذهن يذهب فوراً إلى الصين وتجربتها في مقاومة الوباء والتي لم تقصّر في نشرها على العالم بتقديم المساعدات والمعرفة والخبرة والاستخدام المتقدم لتكنولوجيات الثورة العلمية الرابعة. ولكن الانتقال من قيادة إلى قيادة أخرى في المجتمع الدولي لم يحدث تاريخياً من دون حرب عظمى أو حروب ممتدة؛ والأهم من دون إرادة من الدولة الصاعدة ذاتها لكي تقوم بهذه المهمة. في العام الماضي أعاد غراهام أليسون، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، الذهن إلى ما سماها «عُقدة ثوسيديدس» وهو الفيلسوف الإغريقي الذي كتب عن «حرب البلوبنيز» التي جرت قبل الميلاد بين أثينا وإسبرطة؛ ورغم أن هذه الأخيرة كانت هي التي بدأت الحرب، وانتصرت فيها، فإن ما رآه ثوسيديدس كان أن سبب الحرب ارتفاع قوة أثينا، فلم يكن هناك بُدٌّ من شن الحرب عليها. ترجمة هذا المثال التاريخي على عالم اليوم هو أن صعود قوة الصين، والآن ترشيحها للقيادة في العالم في زمن «كوفيد - 19» يبدو كما لو كان طريقاً آخر إلى جهنم. وربما كان ذلك أحد عيوب الأمثلة التاريخية، فلا أميركا هي أثينا، ولا الصين هي إسبرطة، ولا الزمن زمن الإغريق، إنه القرن الحادي والعشرون.