الاتفاق العام بين الساسة والمحللين أن «القضية الفلسطينية» دخلت مرحلة من السُبات العميق، الذي هو حالة تسقط فيها الأولوية بالنسبة لقضية، بعد أن باتت قضايا أخرى أكثر إلحاحاً، ويعتقد المهتمون بها أنه لا حل لها أو طريق للحل، والأخطر أن الأخطار الناجمة عن وجود القضية لم يعد لها وجود أو أنها من الخفة بحيث يمكن تجاهلها أو التعامل معها. هذه الأوصاف للحال الفلسطينية يضاف إليها في الواقع العربي أن أجيالاً جديدة حضرت إلى الساحة العربية والفلسطينية، وقد اختفى الزخم منها، ومع هذه الأجيال عالمها الخاص الذي اختلف جذرياً عن الأجيال التي عاشت أو تأثرت بالقضية خلال العقود السبعة الماضية. ويبدو أن الشعب الفلسطيني هو الآخر قد دخل إلى منعطفات جديدة، وانشغالات أخرى مثل الانتخابات الفلسطينية التي قد لا تأتي، والمصالحة بين الفصائل الفلسطينية التي تبدو الموافقة عليها متكررة، لكنها في الوقت نفسه غير قابلة للتطبيق. وفي استطلاع للرأي العام الفلسطيني جرى مؤخراً من قبل المركز الفلسطيني للسياسات والبحوث المسحية في رام الله، وكان السؤال عن سبل الخروج من الموقف الحالي، فإن 29 في المائة وجدوه في المفاوضات السياسية، و39 في المائة كانت إجابتهم النضال المسلح، و14 في المائة طالبوا بالمقاومة السلمية؛ لكن المدهش أن 15 في المائة قالوا بالحفاظ على الوضع القائم! ولا يوجد تفسير لهذه الإجابة الأخيرة إلا وجود درجة كبيرة من اليأس من نتائج كل الحلول الأخرى، إلى الدرجة التي تجعل الوضع القائم بكل سوءات الاحتلال فيه ربما يكون أفضل من كل ما هو قادم.
وفي حديث جرى مؤخراً مع مسؤول فلسطيني مهم، كان ملخص حديثه أن العالم مشغول بأمور كثيرة، وأن المنطقة والعالم العربي منها هو الآخر لديه كثير مما يُشغل ويأخذ الأولوية، وفي الواقع الفلسطيني ذاته فإن الانقسام الذي سببته «حماس» جغرافياً وسياسياً جعل الأمور أكثر تعقيداً ويعطي الفرصة لإسرائيل لانتزاع المكاسب. المرحلة التي تحققت فيها بعض المكاسب الفلسطينية، هي التي جرت عندما كانت فيها المفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن دون تدخل من الولايات المتحدة أو أي أطراف أخرى. وإذا كان هناك مجال للتحرك في اتجاه الحل فهو من خلال مكاسب دبلوماسية وسياسية تجري في المجال الدولي، ترفض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتقبل بحل الدولتين. الانتخابات الفلسطينية والانتخابات الإسرائيلية إذا جرت في الاتجاه الصحيح ربما تتيح مفاوضات بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحزب أبيض وأزرق، الذي هو «الأقل سوءاً» بين المتنافسين الرئيسيين في الانتخابات الإسرائيلية. لفت النظر فيما رآه المسؤول الفلسطيني المهم أنه يماثل القصة المصرية الذي تعرضت فيه الأراضي المصرية المحتلة لخطر تقلبات الواقع الدولي، والتدخلات الأجنبية غير العاقلة، ولم ينقذها سوى القدرة على المبادرة التي قام بها الرئيس السادات بعد أن ظهر أن نتائج حرب أكتوبر (تشرين الأول) آخذة في الشحوب، وأن العالم لم يعد مستعداً إلا لعقد مؤتمر دولي يزايد فيه العرب بعضهم على بعض، ويتشدد فيه الاتحاد السوفياتي، لكن الأرض المصرية تظل محتلة. زيارة الرئيس السادات للقدس بدأت عملية سياسية كبرى قادت إلى الانسحاب الإسرائيلي من سيناء.
سألت المسؤول الفلسطيني عما إذا كان ممكناً استخدام حالة الخمود الحالية للقضية الفلسطينية في طرح مبادرة تتعامل مع الواقع الراهن للقضية والقائم على الحقائق التالية؛ أن هناك بين نهر الأردن والبحر المتوسط 12 مليوناً من البشر، نصفهم من الفلسطينيين، ونصفهم الآخر من اليهود، وأن هناك واقعاً أمنياً واقتصادياً واتصالياً وسياسياً بالطبيعة، يخلق حالة من الاعتماد المتبادل في أمور متعددة، منها العمل والسوق والضرائب والعملة. والقضية هكذا. ومع استبعاد الحل العسكري الذي يقلع الفلسطينيين من أراضيهم في «نكبة» جديدة، أو يجعل الإسرائيليين يحملون حقائبهم على عاتقهم ويرحلون، فإن المسألة تكون هي التوفيق بين الواقع وحل الدولتين، وهو ما لا يكون إلا من خلال «كونفدرالية» فلسطينية إسرائيلية تعطي لطرفٍ الدولةَ التي حرم منها طويلاً، وللطرف الآخر دولة آمنة، وتعطي للطرفين معاً قدرات أكبر على التعامل مع باقي المعضلات الخاصة بالقدس واللاجئين والمستوطنات، التي تقررها المصالح المشتركة، وليس إرادة متعصبين أميركيين. فاجأني المسؤول الفلسطيني الهام أنه قد طُرح عليه بالفعل هذا الطرح من قبل الأميركيين، ومن ناحية المبدأ فإنه يوافق على «الكونفدرالية»، لكنها لا تقوم إلا بين دول مستقلة ذات سيادة. هذه الإجابة ربما تأخذنا إلى المربع الأول لحل الدولتين مرة أخرى، الخاص بما جرى عليه الاتفاق طوال سنوات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ صدور قرار التقسيم عام 1947 حتى اتفاق أوسلو الذي أقرّ الوحدة الجغرافية بين الضفة الغربية وغزة تحت الإدارة السياسية الفلسطينية، مع ترك موضوعات الحدود واللاجئين والقدس والمستوطنات والمياه لمفاوضات الوضع النهائي.
هذه المفاوضات لم يقدر لها المضي قدماً في وقت من الأوقات. وما حدث أن الواقع نفسه أخذ في التغير بالزيادة السكانية والاعتماد المتبادل والبيئة الإقليمية وما جلبته من تهديدات أمنية، والإجراءات التعسفية التي اتخذتها الولايات المتحدة من طرف واحد، ورغم الإدانات الدولية والعربية لها فإن الإدانات لم تغير من الواقع الجديد شيئاً. واقع آخر أخذ في التغيير له علاقة بـ«الفلسطينيين الإسرائيليين» البالغين 1.8 مليون نسمة، يشكلون نحو 21 في المائة من سكان إسرائيل، وهؤلاء حصلوا على 13 مقعداً في الكنيست الإسرائيلي، يمكنهم ببعض التنظيم والحشد الشعبي أن يصلوا إلى 15 مقعداً. هذا الواقع كله إذا ما وضع داخل مشروع للكونفدرالية سوف يخلق سبلاً جديدة للتعامل مع القضايا المعقدة الأخرى، فالعاصمة عادة تكون للجميع، والأمن يكون أيضاً للجميع، هناك حرية لكل طرف للتعامل مع واقعه السياسي والاقتصادي في ظل سوق مشتركة واقعية، يدخل فيها العمال الفلسطينيون إلى إسرائيل، ويذهب فيها الإسرائيليون إلى أطباء الأسنان الفلسطينيين. في كل الأحوال، فإن التفاصيل وإن كان الشائع عنها أنها تخفي الشياطين في طياتها، فإنها تعطي الفرصة أيضاً لكثير من المرونة، وتبادل المكاسب التي يقع في مقدمتها الخروج من حالة الحرب والصراع الدائمة. الكونفدرالية من جانب آخر هي التي تعبر الفجوة بين حل الدولتين، والواقع الحالي لدولة واحدة يسيطر فيها المستعمرون والعنصريون تحت غطاء تحقيق الأمن، بحيث يكون هناك مشروع مستقبلي أفضل للطرفين.
الفكرة على أي حال ليست جديدة كل الجدة فقد كانت مطروحة في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، وطرحها بقدر من السذاجة الرئيس الليبي معمر القذافي تحت اسم «إسراطين» في وقت لاحق، ما سبب نوعاً من النفور، لكن طرحها الآن جاء مع العجز عن تطبيق حل الدولتين، والمعارضة القوية من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين لحل الدولة الواحدة، ولو كان هو ما يقود إليه الواقع الراهن. هي فكرة لإحياء قضية لا يجب الانتظار حتى تنفجر في وجه جميع الأطراف.