عن الحزب الخائف إذ يلوذ بـ«اتفاق الطائف»

الثلاثاء 03 ديسمبر 2019 3:25 ص

من المثير أن يتذكر رئيس كتلة «حزب الله» النيابية محمد رعد «اتفاق الطائف» في معرض دعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق منطوق هذا الاتفاق، الذي نتج عنه دستور الجمهورية اللبنانية الثانية. فلا الحزب يتصرف عادة وفق قواعد دستورية صارمة، كالتي قد يعبر عنها سياسي من طراز رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة حين يلوذ بـ«الطائف» مدافعاً عنه أو منافحاً به، ولا «الطائف» هو الدستور الذي يستسيغه الحزب لإدارة الشأن العام في لبنان.
بوهج السلاح؛ عدل «حزب الله» اتفاق الطائف بالممارسة مراراً. وباستخدام السلاح مباشرة في «7 مايو (أيار)» عدّل الاتفاق بصيغة مكتوبة هي «اتفاق الدوحة». وبوهج السلاح والتعطيل والفرض أوصل رئيساً للجمهورية، على ما اعترف نائب للحزب تحت قبة البرلمان، ما لبث أن أُقيل بسبب صراحته الفاضحة.
في الواقع؛ الضحك هو ما يثيره تصريح من هذا النوع للسيد رعد. الضحك المشوب بالاستهجان الذي تستدرجه في العادة الكوميديا السوداء.
يتحالف ضد تصريح النائب الأول لـ«حزب الله» عن مرجعية «الطائف»، سلوك متزامن لرئيس الجمهورية يمعن في انتهاك «الطائف» وآليات الحكم المنبثقة عنه، لا سيما ما يتصل منها بتشكيل الحكومة. فالرئيس ميشال عون، وخلافاً للدستور، يعزف عن الدعوة إلى إجراء استشارات نيابية ملزمة، يفترض أن تفضي في النهاية إلى تحديد اسم الشخص الذي يكلفه رئيس الجمهورية مهمة تأليف الحكومة. بل هو استبدل عبر الممارسة، كما فعل منذ وصوله إلى بعبدا في كثير من الملفات والممارسات، بآليات الاستشارات النيابية الملزمة، مشاورات سياسية جانبية خارج المؤسسات والقوانين بغية الاتفاق المسبق على اسم رئيس الحكومة وشكلها ومهمتها وتوازناتها وتوزيع الحقائب فيها.
وبالتالي بتنا أمام معادلة عجيبة؛ إذ يلوذ «حزب الله» بـ«الطائف»، أو هكذا يدفعننا للظن، يمعن الرئيس عون في تهشيمه، فيما الاثنان ينعمان بأوثق حلف سياسي بينهما، لا في وجه خصومهما من داخل الـ«استابلشمنت السياسي» فحسب، بل في مواجهة الشارع الثائر في وجهيهما والبقية، منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
غير أنه بهذه المعادلة العجيبة يفسر الكثير. لا جدوى للباحث عن الانسجام في موقف «حزب الله» من الدساتير والقوانين وآليات النظام العام. فالحزب انفصالي ووحدوي في آن. عقائدي مذهبي ووطني جامع في آن. ميليشيا ضمن مشروع احتلالي في الإقليم ومقاومة ضد الاحتلال على مستوى الوطن في آن. حاضنة متدينين مؤمنين وعكس ذلك تماماً. بإزاء تعدد الصور تتعد الاستعارات التي يستخدمها الحزب في صياغة موقفه من هذه القضية أو تلك. فما لا تكفيه المواد الدستورية، يستعان عليه بالخطابات الشعبوية، وما لا يخدمه الدستور يؤتى له بآيات الذكر الحكيم، وحين تضيق الهوية المراد خدمتها والتعبير عنها فسيجد الحزب لها على مساحة السيرة الحسينية ومثالاتها ما يعينه على تدبيج قوله كما يشاء.
قبل أيام فقط من استعارة السيد محمد رعد مرجعية «الطائف» لتحديد شكل الحكومة المقبلة على أنها حكومة وحدة وطنية، راجت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تصور رزماً من الدولارات مرصوفة في مكتب ما في مكان ما، قيل إنه في الضاحية الجنوبية لبيروت أو ما ينوب عنها. تزامن ذلك مع خبر شاع شيوع أخبار الفضيحة، أن «حزب الله» غذّى السوق المحلية اللبنانية بنحو 40 مليون دولار، وسدد رواتب نحو 60 ألف حزبي. سبق ذلك تصريح علني لأمين عام «حزب الله» حسن نصر الله أن الحزب سيستمر في دفع المتوجبات عليه لمحازبيه بصرف النظر عن الأزمة التي تعصف بلبنان، والتي أفقدت العملة المحلية ما بين 20 و30 في المائة من قيمتها مقابل الدولار.
هكذا؛ وبإزاء الوحدوية الوطنية للسيد رعد، يعبر «حزب الله» عن انفصاليته عن بقية اللبنانيين، ليس فقط على مستوى نيابته عنهم في القرار الأمني والعسكري والسياسي من دون توكيل منهم، بل بعزلته عن نتائج السياسات التي يقررها لهم، تاركاً إياهم يدفعون وحدهم أثمان هذه السياسات المسؤولة عن جزء كبير من الأزمة التي يمر بها لبنان.
لا يغير كثيراً أن هذه الصورة غير دقيقة، وفيها الكثير من الافتعال والمبالغة وادعاءات القوة على جانب «حزب الله». أهميتها تكمن في تأكيد النزعة الانفصالية للحزب، وتوهمه أنه حالة شديدة الخصوصية داخل المجتمع اللبناني، قادرة على المضي بخصوصيتها إلى ما لا نهاية.
لكنْ للعنتريات حدود، حتى عند عنترة بن شداد نفسه. فتصريح نصر الله عن الالتزام بدفع المتوجبات انعكس سلباً في البيئة الشيعية اللبنانية التي توالي «حزب الله» ولا تتقاضى منه رواتب؛ إذ باتت أمام سؤال لا جواب عنه من دون مخاصمة الحزب: كيف تتحقق المصالح المالية والاقتصادية لعموم الشيعة اللبنانيين، عبر طمأنة محازبي «حزب الله» بشأن رواتبهم في ظل أقسى أزمة اقتصادية ومالية ونقدية يعرفها لبنان منذ استقلاله؟ يزداد السؤال حرجاً في ضوء توصيف «حزب الله» نفسه مسار الأزمة الحالية بأنها حرب أميركية إسرائيلية عليه بالدولار بغية إخضاعه. أمام هذا التوصيف ألا يعدّ صرف الرواتب والاستعراض العلني بوفرة «الكاش» تحدياً إضافياً لمن يشنّون الحرب وتبريراً لمزيد من القسوة على اقتصاد اللبنانيين ومن ضمنهم الشيعة؟
التعمية على كل هذا المسار المأزوم، هي ما تفعله البهلوانيات السياسية لـ«حزب الله»، تارة باستحضار «الطائف»، وتارة باستحضار ما يبرر الانقلاب عليه. فالدساتير تعني في العادة من يعيشون في أوطان محددة، أما من يحيون في عالم الآيديولوجيات الافتراضي، فلا دساتير تعنيهم ولا من يحزنون.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر