الاستراتيجية العربية العليا

الأربعاء 27 نوفمبر 2019 3:17 ص
«الاستراتيجية العليا» أو «The Grand Strategy» هي المفاهيم الأساسية التي تقف وراء الاستراتيجيات والسياسات الخاصة بالأمن القومي والسياسات العامة للدولة، أو لمجموعة من الدول. الأمثلة على ذلك كثيرة، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد نشوب الحرب الباردة، كانت الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة هي «الاحتواء» أو «Containment» للاتحاد السوفياتي، ومنها انبثقت التحالفات الدولية وأوضاع القواعد العسكرية؛ وعلى أساسها قامت العلاقات الخاصة مع اليابان وأستراليا ودول أوروبا الغربية.
وفي مصر قامت استراتيجيتها العليا على «عدم الانحياز» في التعامل مع الحرب الباردة، والتركيز على ثلاث دوائر حيوية للعمل الخارجي، هي: العربية، والأفريقية، والآسيوية. وفي كثير من الدول العربية وكثير من دول العالم، لم تكن هذه الاستراتيجية معلنة بهذا الوضوح، فكان الميل إلى الاتحاد السوفياتي في السابق، أو العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة، هي المظلة العالية للقرارات الاستراتيجية، وعندما بدا أن التجربة الأوروبية قد وصلت إلى مرحلة الاتحاد الأوروبي، فإن المظلة اتسعت لكي تشمل الدول الأوروبية وأميركا وحلفاءهما في اليابان وأستراليا، وباختصار ما اصطلح على تسميته بالغرب. لم يكن ذلك يعني استبعاد علاقات خاصة مع المجموعة العربية أو مع الدول الإسلامية، أو روابط من نوع خاص مثل الجامعة العربية ودول المؤتمر الإسلامي.
وفي بعض الأحيان، ارتبطت الاستراتيجيات العليا بآيديولوجيات بعينها، فكانت الشيوعية وانتشارها وراء كثير من سياسات واستراتيجيات موسكو العالمية والمحلية. وعلى الجانب الآخر كانت الرأسمالية والليبرالية وراء كثير من سياسات واشنطن العالمية؛ بل وكانت سائدة تماماً بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وما توصل إليه الأميركيون من «نهاية التاريخ» عند أعتابهم، ومن ثم خروجهم لفتح العالم، فكان غزو العراق. وبات معلوماً الآن أن غلاة المحافظين الجدد كانوا يرون في الغزو مقدمة للتغيير في القاهرة والرياض. والحقيقة أن موقف إدارة أوباما من «الربيع العربي» المزعوم كان وراءه ذلك الاعتقاد في «الاستثنائية العربية» التي جعلت بلاداً عربية مستعصية على الانضواء تحت المظلة الليبرالية والعلمانية الغربية، بكل ما يعنيه ذلك من معانٍ وتطبيقات.
الآن، هناك كثير من الأسباب التي تدعو الدول العربية إلى تبني استراتيجية عليا تتلاءم مع الظروف العالمية المتغيرة والجديدة. وأول هذه الظروف أن هناك حدوداً كثيرة للاعتماد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ فواشنطن الآن لم تعد تبحث عن حلفاء في نظام عالمي، وإنما تبحث عن مستهلكين لعناصر القوة الأميركية من سلاح وتكنولوجيا وحماية. وفي شهر يوليو (تموز) الماضي، وأثناء زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك جون بولتون لليابان وكوريا الجنوبية، فإنه طلب من طوكيو زيادة 300 في المائة فيما تدفعه لواشنطن، فيرتفع ما تدفعه من ملياري دولار إلى 8 مليارات؛ أما سيول فارتفعت قيمة مدفوعاتها بنسبة 400 في المائة، فارتفع ما كان واجباً عليها دفعه، من مليار دولار سنوياً إلى 5 مليارات. ومن المعروف في هذه الأحوال أن تحديد الأسعار والتكاليف والأجور يظل دائماً تقديراً أميركياً، فالأمور المدفوعة ليست من أمور السوق العالمية.
أوروبا مع «بريكست» تفقد حليفاً مهماً، والأهم من ذلك الانقسام الأوروبي حول مزيد من الاستقلال والوحدة الأوروبية، أو التعلق بأذيال التحالف الأطلنطي، وهو انقسام يضعف كثيراً من القدرة على صنع القرار، ويخلق أجواء لكثير من أشكال التنافس الفرنسي الألماني.
وثاني الظروف - وليس سراً على أحد - أن دول الجوار الجغرافي للعالم العربي قد وجدت في الحالة العربية في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ما يغري بالعدوان، ويظهر ذلك من سلوكيات إيران وتركيا وإسرائيل تجاه الخليج العربي، والمشرق العربي، والأراضي الفلسطينية، على الترتيب. إثيوبيا وجدت في الفترة الزمنية نفسها، ونقص المناعة السياسية، ما يغري ببناء سد النهضة.
وثالث الظروف أن العقد الذي يوشك على الأفول، شهد إلى جانب كثير من مظاهر الضعف بدايات حقيقية لعمليات إصلاح عميقة في كثير من الدول العربية؛ خصوصاً السعودية ومصر والإمارات؛ ومن المعلوم أن مثل هذا التوجه يعني في جانب منه التركيز الشديد على الداخل، والبنية السياسية والاقتصادية والثقافية للدولة، والحساسية الشديدة للعداءات الخارجية.
إن محصلة هذه الظروف مجتمعة: أولاً أن الاعتماد على قوة أو قوى خارجية بات مشكوكاً فيه؛ بل إنه بات واضحاً تماماً خلال الفترة الأخيرة التي مرت بها الدول العربية وما تعرضت له من اعتداءات. ولا يعني عدم الاعتماد هنا قطع العلاقات أو العداء، وإنما يعني أن عناصر القوة موجودة في السوق العالمية، ولا تحتاج تركيزاً على سوق بعينها. وثانياً أن الدول العربية لم يعد لديها ما تعتمد عليه وتتحالف معه إلا الدول العربية الأخرى، ليس للأسباب المعروفة التي انتابت حالة «القومية العربية» وإنما لأن الأوضاع الاستراتيجية الراهنة في المنطقة والعالم تفرض على الدول العربية المعنية مباشرة ثلاث استراتيجيات عليا ممكنة: الأولى الاعتماد الكلي على الذات، وهي استراتيجية عالية التكلفة، والموارد البشرية والمالية اللازمة لها غير متوفرة، ولا تسعى لها إلا دول في حجم الولايات المتحدة والصين وروسيا. والثانية اللحاق أو ركوب مركبة الدول المجاورة، والبحث في فصول التاريخ أو منافع الجغرافيا عما يخفف من الخسائر أو يحقق بعضاً من الفوائد. والثالثة توازن القوى الذي يردع بتكلفة العدوان على من يقوم به، والذي يعطي الفرصة في عمليات تفاوضية متكافئة للتعامل مع قضايا الإقليم المختلفة، وبناء نظام فعال للأمن الإقليمي يمنع التهديد، ويسمح بعلاقات تعاونية مفيدة للجميع.
الاستراتيجيات العليا الثلاث مفتوحة للدول العربية، وفي المقدمة منها دول التحالف الرباعي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) والتي أظن أن تحالفها لم يكن فقط لمواجهة قطر، وربما الأوان الآن لكي يتطور من سلاسل المناورات العسكرية المشتركة الكثيفة التي جرت خلال الأعوام، إلى تحالف حقيقي له أوجه عسكرية وسياسية واقتصادية. بعض من ذلك كانت له خطوات خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث كانت هناك اتفاقيات تخطيط الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، التي فتحت أولاً أبواب الاستغلال المصري والسعودي للمنطقة الاقتصادية الخاصة بكل منهما في البحر الأحمر والجزر الواقعة فيه؛ وثانياً أبواب تعمير سيناء وشمال غربي المملكة في إطار مشروع «نيوم». ومؤخراً فإن الإمارات وقعت مع مصر صندوقاً استثمارياً قدره 20 مليار دولار، يدفع التعاون الواقع فعلاً دفعات كبيرة إلى الأمام. هذه الخطوات تظل مجرد خطوات للتعاون، ولكن وضعها في إطار استراتيجية عليا لتحالف فعال أمر آخر، فمهامه تنهي الحروب الجارية، وتصد عمليات الاختراق الواقعة، وتحل معضلاته التاريخية وأزماته الاستراتيجية المزمنة، والتعامل مع «الحراكات» الشعبية المطردة في الإقليم، وتضع شعوبه على أبواب العصر الذي نعيش فيه، والذي ما لم نقتحمه فإنه سوف يقتحمنا بأشكال جديدة من القهر والعدوان.
قدرات التحالف المشار إليه ليست قليلة، ووجوده على الساحة سوف يغني عن سؤال اللئيم، وسوف يكون جاذباً لدول عربية أخرى.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر