لتونس ألوانها الخاصة في كل شيء. تنفتح مساراتها على الحلم والعمل تحذوها أصوات الناس بملابسهم الزاهية وعقولهم التي تشعُّ بما يشعلها من التاريخ القديم والحديث. الانتخابات الرئاسية التي حسمت جولتها الأولى وتنتظر الوقفة الختامية في الأيام القادمة ألقت الأضواء على الخريطة التي رسمتها ثورة الياسمين التي أشعلتها نار محمد البوعزيزي في ديسمبر (كانون الأول) 2010. قراءة تلك الخريطة القديمة الجديدة لا تكون إلا بعيون قادرة على الغوص في أعماق الأحداث ومسار ما ظهر وما بطن منها.
عدد الذين تقدموا للانتخابات الرئاسية قارب المائة من الرجال والنساء، ويعني ذلك النظرة الجديدة لمفهوم السلطة، فلم تعد تلك القوة العلياء طوطماً يقتصر الوصول إليه على طبقة أو شخصيات نبتت من بذور الاحتكار للكراسي والمناصب العليا، ثانياً أن ذلك العدد الطامح لتسنم كرسي القرار يؤشر إلى أفقية التفاعل الشعبي مع العملية السياسية على المستوى الوطني وإزالة الحواجز الموروثة على مدى سبعة عقود من الحكم. نتائج الجولة الأولى أكدت أن ثورة الياسمين التي أبعدت الرئيس الأسبق زين العابدين بن على الذي حكم البلاد بقوة الأمن وحقق نسبة نمو عالية وواجه المعارضة بأساليب متنوعة، أكدت أنها لم تبلغ منتهاها وأن النخب التي حكمت بعده لم تنجح في تحقيق أهداف الحراك الشعبي الذي انطلق في ديسمبر 2010 وكان عنوانه: الشعب يريد.
تسابق المحللون والدارسون على نحت عنوان لما حدث، وصفه البعض بالطوفان والتسونامي والزلزال. لقد أسقط كثيراً من الرؤوس السياسية والجبال الحزبية وأبرز حقائق ولا نقول: شخوصاً أو زعامات جديدة، فبعد غربلة القائمة الطويلة لم يصمد سوى 24 شخصاً في القائمة التي خاضت الجولة الأولى من الانتخابات وبها أسماء من الوزن الثقيل من بينهم رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد الذي كان من رموز حزب «نداء تونس» قبل أن ينشق ويؤسس حركة «تحيا تونس»، وكذلك رؤساء حكومات سابقون بينهم المهدي جمعة وحمادي الجبالي والنائب الأول لرئيس مجلس نواب الشعب عبد الفتاح مورو، والسيدة عبير موسى أمينة «الحزب الحر الدستوري» الذي يهدف إلى استعادة الجسم السياسي الأقدم في تونس، وكذلك حمة الهمامي رمز الحركة اليسارية التونسية. أزيح هؤلاء بكل ألوانهم وبقي على الحلبة اسمان لكل منهما أكثر من ملمح وخصوصية شخصية وسياسية. الأول أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد الذي ليس له حزب ولم يتولَ أي منصب سياسي وليس له قدرات مالية أو أذرع إعلامية وإن كان صوته لم يغب عن المشهد التعبيري العام، مكرراً الخطاب نفسه الداعي إلى مأسسة كيانات الدولة، شخصية محافظة بحسابات، انتهج ما يمكن أن نسميه (الشعبوية الدستورية) التي تدعو إلى مواجهة الدستور التونسي بهدف تنزيل السلطة إلى القاعدة الشعبية بقلب هرم القرار بأن يكون الناس في كل أنحاء الوطن شركاء في إدارة الشأن العام عبر المجالس المحلية المنتخبة التي تحيل ما يريده الشعب إلى المركز، وبكون قيس سعيّد أستاذ قانون دستوري فهو يعلم صلاحيات رئيس الجمهورية المحدودة فلم يذهب خلال المناظرات الانتخابية إلى رفع السقف الرغبوي بل تحدث في أفق الصلاحيات التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية وركّز على إعادة مأسسة الدولة بما يضمن فاعليتها لتحقيق نقلة شاملة في كل مجالات العمل الوطني. جانب آخر في شخصيته وهو إظهار البعد المحافظ الذي يبرز التشبث بالهوية العربية الإسلامية، ففي كل أحاديثه ينطق بلغة عربية فصيحة لا يشوبها خلل نحوي ويتعمد الابتعاد عن إقحام كلمات فرنسية في أحاديثه مثلما يفعل كثير من الساسة والمثقفين، كذلك موقفه الواضح من الشريعة الإسلامية فهو يكرر القول إنه لا اجتهاد مع النص القرآني وحسم بذلك موقفه من موضوع الميراث الذي لم يتوقف الجدل حوله بتونس وكذلك رفضه القاطع لتشريع المثلية وذهابه إلى التمسك بعقوبة الإعدام. اعتماده في حملته على الشباب وجلهم من طلبته الذين تتلمذوا عليه عند تنقله أستاذاً بعدد من الجامعات التونسية ورفضه للمساعدات من الجهات العامة والخاصة، بكل ذلك نجح في أن يكون صوت الشعب الذي يريد.
الشخصية الثانية التي اعتلت حلبة الجولة القادمة هو نبيل القروي الذي يمثل تكويناً خاصاً يأتي على الطرف الآخر من التيار الذي يمثله الأستاذ قيس سعيّد، فهو من المحسوبين على الطبقة الحاكمة ومن الداعمين للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وساهم في جمعه مع رئيس حزب «النهضة» راشد الغنوشي في باريس الذي أنتج مرحلة الوفاق السياسي بين الزعيمين، يمتلك ذراعاً إعلامية ضاربة وهي قناة «نسمة» التلفزيونية التي سخرها لدعم السبسي في انتخابات الرئاسة السابقة وخاض عبرها معارك طويلة وواسعة مع أطراف سياسية متنوعة، ويعد من أغنياء تونس الكبار ووجهت له أكثر من تهمة، السؤال هو لماذا لم يعد القروي من الشخصيات المرفوضة شعبياً رغم كل ذلك؟ الجواب هو قربه من عامة الناس في كل أرجاء البلاد وتقديم المساعدات للمحتاجين من الفقراء والمرضى والطلبة الذين لم تصل لهم يد الدولة، وبعد اعتقاله بتهمة الفساد اعتبره كثير من عامة الناس أنه ضحية مثلهم وإن اختلفت الأسباب، مما حوّله إلى ضحية استدارت حوله حلقة تراجيدية تضمه إلى ملايين المظلومين الذين يطمحون لأن يكون مفتاح قصر قرطاج من حديد قضبان الظلم.
لمن ستكون الغلبة في الجولة الانتخابية القادمة؟ الأستاذ قيس بن سعيّد له مريدوه ولرجل الأعمال نبيل القروي مؤيدوه، لكن الأصوات التي ذهبت إلى من غادروا السباق ستكون حاضرة كلها أو بعضها، وبلا شك سيكون خيارها حاسماً. هذه الأصوات ستقرأ المشهد من زوايا جديدة، فما سمي الطوفان أو التسونامي سيغير اتجاه المراكب وألوان الاختيار. «النهضة» غابت وكذلك اليسار والوسط الليبرالي والشعار القومي. هل سيكون الرجل الذي عرف دنيا العمل والمال وتعامل مع قلاع الأموال الدولية نبيل القروي هو الأمل في خلق فرص للشباب العاطل وتعامل مع المحتاجين الفقراء وله القدرة على إخراج البلاد من مستنقع الديون الخارجية ويمتلك قوة القرار بتكوين كتلة فاعلة مؤيدة له داخل البرلمان، هل سيكون الفائز القوي؟ أم أن الشعبوي الدستوري الأستاذ قيس سعيّد هو من سيحلب الضرع الذي غاب حالبوه ويتقدم لقيادة البلاد؟ نتائج الانتخابات البرلمانية سوف تتأثر بلا شك بنتائج الرئاسية، وليس سراً أن راشد الغنوشي الذي تقدم للانتخابات البرلمانية عينه على رئاسة مجلس النواب، وفي حالة تحقيق هدفه ستكون له اليد الطولى في القرار بحكم طبيعة النظام البرلماني في تونس. لقد كان المشهد الانتخابي التونسي بكل ما رافقه، حلقة في ثورة الياسمين التي أشعلها البوعزيزي الذي قد تنطفئ ناره إذا تحقق شعار الملايين (الشعب يريد).