قال الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، قبل مدة: «نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1979، إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب».
وعام 1979 ليس رمزاً ولا محطة، بل هو عامٌ برزت فيه ثلاثة أحداث: التدخل السوفياتي في أفغانستان، الذي ردَّت عليه الولايات المتحدة باستخدام «الجهاديين» الأفغان والعرب والباكستانيين ومقاتلين آخرين من بلدانٍ إسلامية شتّى (1979 - 1989)، فصارت لهذه الشراذم تجربة تجمعٍ وتدريبٍ ونجاح، وكانت «القاعدة» أبرز نتائجها. وحدوث الثورة الدينية الإيرانية على الدولة الوطنية في إيران، التي كان من نتائجها قيام نظام ولاية الفقيه، الذي غيَّر وجه إيران والمذهب الشيعي، ولا يزال ينشر بميليشياته الطائفية الخراب في العالم العربي. وقيام جهيمان العتيبي باحتلال البيت الحرام، في محاولة لإحداث انشقاقٍ في الدين، وتصديع سلطة الدولة الوطنية السعودية.
إنّ المشترك بين هذه الأحداث الثلاثة المَهولة أمران: الخروجُ العنيفُ على العُرف الديني والاجتماعي والآيديولوجي لدى الشيعة والسنّة في الإسلام، وضرب نظام الدولة الوطنية العربية والإسلامية التي ظهرت وسادت في القرن العشرين. وفي الحالتين الأُوليين (أفغانستان وإيران) برز الصراع الدولي في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى. وفي تلك اللحظة الاستراتيجية، بدا كأن الولايات المتحدة اتجهت لاستخدام الثوران الديني في ضرب عدوّها الرئيسي. ففي العام التاريخي ذاك (1979) اعتلى يوحنا بولس الثاني سُدّة البابوية في الفاتيكان، وشن الرجل البولندي الأصل حرب الإيمان والحرية على المعسكر السوفياتي بالتحالف مع الولايات المتحدة. في حين تحالف الانشقاقان الشيعي والسني مع الولايات المتحدة للغرض ذاته (من وجهة نظر الولايات المتحدة) وهو إسقاط المعسكر الشيوعي، وليس على أطرافه فقط في إيران وأفغانستان؛ بل وفي قلبه آنذاك في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية.
لقد أدت أحداث عام 1979 إلى تغييرات كبرى جيوسياسية وجيواستراتيجية، ومن بينها سقوط الاتحاد السوفياتي خلال عشر سنوات، وظهور نظام دولي جديد سيطرت فيه الولايات المتحدة بمفردها لقرابة العقدين؛ وفي حين تخوض روسيا الاتحادية منذ نحو العقد من السنين حروباً وصراعات لاستعادة التوازن، والثُنائية القطبية؛ فإن التغييرات الكبرى الجيودينية لا تزال تسود المشهد. وفي حين لم تندلع بعد في الكاثوليكية؛ فإنها امتدّت إلى البروتستانتية، والهندوسية والبوذية واليهودية. وتركت تأثيراتها القوية على الإسلام: بين التشيع الجديد والتسنن الجديد، وبين إيران والعرب، وبين المتطرفين السنّة والدول الوطنية القائمة.
لقد واجهت سائر الدول العربية ومنذ التسعينات من القرن الماضي ثلاثة تحديات في وقت واحد: تحدي الانشقاق الديني داخل الإسلام السني، الذي ما استطاعت الوقوف في وجهه بكفاءة غير الدول القوية جداً مثل السعودية والمغرب ومصر. وتحدي التشيع الجديد الذي دفعته الثورة الإيرانية إلى السطح مازجة بين المذهبي والقومي، لشرذمة المجتمعات العربية، وتصديع الدول. إنّ الفرق الرئيسي بين الانشقاق الديني في التسنن، والآخر في التشيع؛ أنه بقي في السنّة هامشياً مستنكراً، بينما سيطر على رأس المذهب في التشيع، فصارت المرجعية لديه. والتحدي الثالث التدخلات الدولية التي لا تزال جارية حتى اليوم أيضاً؛ تارة بحجة مكافحة الإرهاب، وطوراً بحجة ملء الفراغ أو الخواء الاستراتيجي، بزعم حصوله في العالم العربي وأفريقيا على وجه الخصوص.
في وجه التحدي الأول (الانشقاق الديني الداخلي العنيف)؛ فإنّ الدول العربية استخدمت القوة للدفاع عن الأمن والاستقرار، ووحدة المجتمعات والدول. وقد كان ذلك ضرورياً ليس بسبب العنف باسم الدين فقط؛ بل ولأن أطرافاً إقليمية ودولية تمكّنت من إعادة توجيه الجماعات العنيفة لتحقيق أهداف لها بالداخل العربي والإسلامي؛ بعضها سياسي (بحجة أنّ الإسلام دينٌ ودولة)، وبعضها استراتيجي (الامتداد للدواخل بحجة نصرة التشيع المتطرف، أو التسنن المتطرف).
وفي الوقت نفسه، وفي السنوات العشر الأخيرة بالذات؛ فإنّ المؤسسات الدينية الكبرى، والمفكرين المستقلين، دخلوا على مسائل مكافحة التطرف والعنف باسم الدين. وذلك من طريق إدانة العنف باسم الدين، ومن طريق نقد عمليات تحريف المفاهيم الدينية الكبرى. وما اعتبرت السلطات ذلك كافياً، لأن العنف لم يتراجع، ولاضطراب صورة الإسلام بالدواخل وفي الخارج العالمي. وكنتُ أرى منذ أكثر من خمس سنوات أنّ المؤسسات الدينية بعكس الدول ما كانت واعية للأسباب العميقة لهذا العنف باسم الدين، وظلت مثل فئات واسعة من الجمهور تظن ذلك العنف نوعاً من ردّة الفعل على التحديات الثلاثة التي سبق ذكرها. ثم إنها، ولأنّ هذه الظواهر المفزعة جديدة؛ فإنها ما كانت تملك التأهل والتأهيل للمواجهة. وقد خذلها المفكرون الذين تسيّس كثيرٌ منهم، وتَأَخْون كثيرون. بينما صار الإعلام كله ضدّها، باعتبارها المسؤولة عن التقصير في التربية والتوجيه، بحيث خرج الشباب عليها وعلى المجتمعات والدول.
إنّ ما أُريد الوصولَ إليه أنه، ورغم وجاهة بعض ما يُقال ويُكتب؛ فإن الحملات الأمنية والفكرية كانت ولا تزال تُواجهُ التطرف العنيف الذي يظهر في الشارع، لكنها لا تُعطي مجالاً واسعاً للوجه الآخر من وجهي مكافحة التطرف، أو الحيلولة دون تشكل أجيال جديدة من الشباب المتطرفين. نحن بمثابة من ينهى عن المنكر، أو يعمل على درء المفاسد، لكننا لا نعمل كثيراً على الدعوة للمعروف، أو جلب المنافع. لقد استخدمْنا كثيراً سلاحَ التأصيل؛ أي مصارعة المتطرفين العنيفين بالآيات والأحاديث، واستخدم دعاتهم هم آيات وأحاديث أخرى، عمدنا بدورنا إلى توجيهها وجهات أخرى وتأويلها من خلال السياق، وتفسير القرآن بالقرآن، كما هو معروفٌ لدى الفقهاء في العمل تقليدياً. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين التأصيل والتقعيد أو العمل على المعروف والمفهوم والمتعارَف عليه بين المسلمين في مجتمعاتهم وممارساتهم.
إن العودة إلى ما قبل عام 1979 تعني العودة إلى إسلام الأكثرية أو الجماعة أو التيار الرئيسي، وردّ الجديد إلى المعروف والمتعارَف عليه في الدين والمجتمع. وهذا يستدعي رؤية أو سردية جديدة تمضي من الجزئي إلى الشامل. فالجماعة تحتضن الكتاب والسنّة، وعاشت وتعيش معهما في التاريخ والحاضر. والخروج عليها خروجٌ عليهما. ولذلك، فحتى الاحتجاج أو تطلُّب الجديد أو استدعاء الاجتهاد؛ كلُّ ذلك يعيشه الناس كلَّ يوم، ولا يستدعي عنفاً ولا تكفيراً إلا إذا صار المقصود الانشقاق، والخروج على المعروف من دين الجماعة بالضرورة: «فأمَّا الزَّبَدُ فيَذْهَبُ جُفاءً وأما ما يَنفَعُ الناسَ فيَمْكُثُ في الأرض».