يعتبر النمط الثقافي في أي مجتمع من المجتمعات، مقياسًا صحيحًا لتحديد مكانته العلمية، وقوَّته السياسية، وترابطه الاجتماعي، وما زالت الدول العربية والإسلامية تعاني من تعدُّد الأنماط الثقافية الدَّخيلة التي أوجدها الاحتلال السياسي ثم الغزو الثقافي بعده، وما زالت آثار هذه الثقافات الدَّخيلة مستمرة في محاولات القضاء على هويَّتنا العربية والإسلامية.
وفي المقابل تحاول منذ سنوات، بعض الدول العربية التي أحرزت شوطًا كبيرًا من الاستقرار؛ إِحداث نهضة ثقافية داخلية يكون لها تأثير عربي وإسلامي، وربما تطمح إلى أن يتسع نطاق تأثيرها إلى فضاء أبعد، وهذا أمرٌ طيبٌ ويُحسَب لها، لكن محاولات هذه الدول تتراجع إلى الوراء وهي تظن أنها تقفز خطوات واسعة في رِكاب التقدم؛ وذلك أنها تعمل من خلال الأنماط الثقافية التي يجب عليها أن تحاربها وتتصدى لها؛ وهي الأنماط التي صدَّرها إلى بلادنا الغزو الثقافي خلال عقود طويلة ماضية؛ ولا غرابة أن يكون الأدب -بوصفه مرآة المجتمع- هو الشاهد الرئيس على ذلك، وهو المتضرر الأكبر أيضًا؛ فأدب المجتمعات هو واجهَتُها الثقافية والعلمية، وإلحاق الضرر به في مجتمعٍ ما، هو تدمير لذلك المجتمع.
والغزو الثقافي قد صدَّر إلى بلادنا أنَّ كل من كتب خاطرة تعجُّ بأخطاء اللغة فهو شاعر، وأن كل من حصل على شهرة واسعة فهو علَّامة فيما اشتُهِر به، وأن كل من حصل على جائزة في مجالٍ ما فهو المقدَّم في ذلك المجال؛ في حين أن الدول والمجتمعات التي صدَّرت إلينا ذلك، لا تطبِّقه في أرضها، ولا يندرج أبدًا ضمن ثقافتها؛ لأنها وضعت هذه القاعدة التخريبية من أجل القضاء على الثقافات والحضارات الأخرى، التي تتعارض مع حضارتها الوليدة وثقافتها الناشئة؛ وذلك بِدافع الحقد والحسد وحب السيطرة.
ولم تدرك الدول العربية صاحبة المشروعات النهضوية؛ هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، فانطلقت بمشروعاتها من نقطة ارتكاز محورية على تلك الثقافات الدخيلة، ولا يُعتبر حُسن النِّيَّة عُذرًا لها؛ لأن هذه المسألة من الأمور الحيوية التي يستوي فيها الخطأ والعمد؛ ففي جميع الأحوال قد جاءت هذه الدول بمجموعة أشخاص لا دراية لهم بأي فنٍّ من فنون الأدب، وأطلقت عليهم ألقابًا لا قِبَل لأعظَمِهم بأقلِّها، فمَن الذي سمَّاهم شعراء أو أدباء أو نقَّادًا، فضلًا عن أن يمنحهم هذه الألقاب الكبيرة وهم لا يعرفون ماهية الشعر ولا يعلمون شيئًا من مقوِّماته، ولا يمتلكون شيئًا من أدوات النقد؟!.
وفي أثناء ذلك نجد أن الدول الفقيرة ذات الأنظمة السياسية الضعيفة إداريًّا وعلميًّا، التي لا تستطيع أن تتخذ قرارًا ذاتيًّا؛ نجد أنها تستعين بأولئك الضعفاء الذين تم الترويج لهم إعلاميًّا مِن قِبَل الدول صاحبة المحاولات النهضوية، وتُسنِد إليهم أمور المؤسسات الثقافية والأدبية والفكرية الرسمية، وربما غير الرسمية أيضًا؛ لاعتقادها أنهم رموز بارزة في هذه المجالات، بعد أن أقرَّت بذلك تلك الدول صاحبة المشروعات النهضوية، وهي لا تدرك أنهم لا شيء في الواقع، وكل ما هنالك أنهم نشؤوا في بيئة تعاني من وطأة الغزو الثقافي، وأن ذلك الغزو اقتضى أن يكونوا هم الممثلين الرسميين لعلومٍ وآدابٍ لا يدركون مِن كُنْهِها شيئًا؛ حتى ينساق العامة خلفهم، ويتم التأصيل لِما يحدث، باعتباره صورة حقيقية للجانب الثقافي العام في هذه الدول الفقيرة، وهو خلاف الواقع قطعًا، لكن أصحاب الفكر والإبداع الحقيقي لن يهينوا أنفسهم أبدًا بمزاحمة أولئك الدهماء محليًّا أو عالميًّا؛ بل يتركون إنتاجهم يعبِّر عنهم.
أما أولئك الضعفاء الذين يتصدرون المشهد بغير حق، ويقدِّمون صورًا سيئة عن مجتمعاتهم؛ فقد تمكنت منهم ثقافة الأنانية والجحود، التي جعلت مَن لا يصلح لشيء؛ يختال بلقبٍ لا يستحق شيئًا من مدلولاته، ويظن نفسه أهلًا له، لا لشيءٍ سوى أنه حصل عليه في مسابقة لم يشارك فيها إلا خمسون إنسانًا كلُّهم في مِثل ضعفِه أو أشد، والذي شجعهم على ذلك؛ أنهم وجدوا مِثلَ تلك المؤسسات صاحبة المحاولات النهضوية، فهرعوا إليها، في الوقت الذي يحجم فيه ذوُو الفضل وأصحاب السبق عن النظر إليها.
إن هذه الدول صاحبة المحاولات النهضوية التي نشهدها منذ سنوات؛ لديها طموحات جادة، وآليات تنفيذ ضخمة، لكن منهجيَّتها خاطئة، ورؤيتها قاصرة؛ حيث ساهمت بإمكاناتها الكبيرة في توطيد الغزو الثقافي دون أن تشعر، فهي وإن كان لديها الطموح النهضوي، لكن الهيكل الإداري البشري، الذي يباشر تنفيذ هذه النهضة المأمولة، قد تشبَّع بالثقافات الدخيلة ولم يتم تطهيره منها.
يجب على القائمين بهذه المحاولات النهضوية، أن يقوموا أولًا بطرح الأنماط الثقافية الدخيلة جانبًا، ومِن ثَمَّ إعادة البناء من خلال أفكار أصيلة نابعة من هويَّتنا العربية والإسلامية، قائمة على أساس متين من موروثنا الثقافي بتعدُّد مجالاته، من خلال الحفاظ على معايير وثوابت أدبنا العربي، الذي كان في الماضي يمثل مرآة حقيقية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فلا يمكن لنهضةٍ ثقافية أن تحدث في مجتمعٍ ما، ما لم تتخذ من هويَّة ذلك المجتمع وتراثه الثقافي والحضاري، نقطة انطلاق ثابتة، تستمدُّ منها وتضيف إليها، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بعد القضاء على الأنماط الثقافية الدخيلة التي لا تليق بمجتمعاتنا ولا تعبر عن جوهر هويَّتها.
فالغزو الثقافي جعل هدفه القضاء على الهويَّة والثقافة والحضارة المشتركة التي تجمع الدول العربية والإسلامية، وترك لكلٍّ منها ثقافتها الخاصة؛ حتى يسهُل عليه التفرقة بين هذه الدول، ولذلك نجد أن الأفكار التي تحقق نجاحًا مشهودًا من المحاولات النهضوية التي تقوم بها بعض الدول العربية، هي الأفكار التي تتعلق بالتراث المحلي المحض، الذي لم تتمكن منه آفة الغزو الثقافي، فظل على عهده، ولم يجد العنصر البشري وهو يتعامل معه، أيَّة معوِّقات داخلية أو خارجية.
ومما يزيد الأمر سوءًا أن وزراء الثقافة في بعض الدول العربية، لا ينتمون إلى الثقافة العربية، ولا يدركون شيئًا من ماهيَّتها، إضافة إلى عدم فهمهم المعنى الصحيح للكلمة لغة أو اصطلاحًا أو تنظيرًا أو تطبيقًا؛ فهم لم يأتوا إلى الوزارة إلا لكونهم جزءًا من أنظمة سياسية حاكمة أرادت مكافأتهم على دعمهم، فجاءت بهم إلى هذه الوزارة باعتبارها منصبًا سياسيًّا محضًا، وليس باعتبارها وزارة حيوية تؤثِّر في تشكيل شخصية الفرد والمجتمع، وتوجِّه السلوك الفردي والجماعي إلى أنظمة التعايش داخل المجتمع، وحيث إن فاقد الشيء لا يعطيه، إضافة إلى كثرة المؤسسات والهيئات التابعة لوزارة الثقافة في بلداننا العربية؛ فإن ذلك يؤثر قطعًا في تشكيل الهيكل الإداري القائم بأمور العملية الثقافية، ثم ينتقل هذا التأثير على نطاقٍ أوسع داخل المجتمع، الذي نجده في ظل هذه العوامل عاجزًا عن الفكر والإبداع والتقدم، مُتَّجهًا فقط إلى أمور عبَثِيَّة تم جلْبُها من مجتمعات أخرى تتعامل معها باعتبارها أمورًا ترفيهية، بينما يتعامل هو معها باعتبارها الثقافة الشمولية التي يجب ألا يخرج عن حدودها أو يتجاوز أبعادها.
وفي الدول النامية التي فقدت هويَّتها الثقافية؛ نرى بعض أبنائها من ذوي الرُّتَب المتوسطة غير العلمية، يزعمون أنهم كانوا في أثناء صِغَر رُتبتهم يحضرون الأمسيات الثقافية والمؤتمرات العلمية، ويشاركون فيها بإنتاجهم الإبداعي والفكري والعلمي، ثم لما علَت رُتبتهم؛ تركوا هذه الأمسيات والمؤتمرات لأنهم أصبحوا أكبر منها وهي لا تليق بهم على حدِّ زعمهم!!، وهم قطعًا يقولون كلامهم ذلك انطلاقًا من الصورة السيئة المزيَّفة للعملية الثقافية، التي تبدو بالوجه الذي رسمه الغزو الثقافي، على النحو الذي بيَّنَّاه في السطور السابقة؛ فهؤلاء لو كانوا يرون في تلك المجالس الثقافية والعلمية؛ المبدعين والمفكرين والعلماء الحقيقيين؛ لعلموا أنه من الخير لهم أن يختلطوا بهم ويتعلموا منهم، ويتتلمذوا على أيديهم، ويشهدوا كيف ينهضون بمجتمعاتهم، لكن الغزو الثقافي صوَّر لعوامِّ الناس أن الثقافة ما هي إلا اللهو والسُّفور والانحلال؛ وذلك من خلال تمكينه لعملائه الذين يتَّصفون بهذه الصفات، والترويج لأفكارهم الباطلة تحت انتحال مسمَّى الثقافة، فتعامل العوامُّ فكريًّا مع مصطلح الثقافة بهذا المفهوم، وشجعهم على ذلك أن الأنظمة السياسية في مجتمعاتهم تأتي غالبًا بأناس من أهل تلك الصفات الممقوتة وتُسنِد إليهم قيادة المؤسسات الثقافية الرسمية في الدولة، ابتداء من منصب الوزير فما دُونه.
وكل ما يمكن أن يقال في ضوء القراءة الموضوعية للواقع: إن هذه المحاولات النهضوية أصبحت تساهم -دون أن تقصد- في نشر الغزو الثقافي، والتأصيل له باعتباره واقعًا أصيلًا وليس غزوًا، وهذا هو الذي يريده العدو المتربص بنا، أما نجاح هذه المحاولات النهضوية فيتوقف على العودة إلى جذور ثقافتنا الأصيلة وهويَّتنا العريقة؛ لتكون بؤرة ارتكاز رئيسَةً لهذه المحاولات، تنطلق منها الأفكار الجادة، التي تبحث عن الامتداد الحقيقي لهذه الثقافة بِتعدُّد مكوناتها، وتنظر فيما يمكن اعتباره تطوُّرًا لها في ضوء أسس علمية صحيحةٍ لا تتعارض مع شيء من الثوابت الموروثة، التي هي الفيصل الصحيح بين التطور البنَّاء الذي يحافظ على مقوِّمات العلوم والفنون، وبين الحداثة الهدَّامة، التي لا تأتي إلا بما هو خِلاف الصحيح.