لا ثورة بلا جيش يحميها.. تأملات في الثورات العربية والأجنبية

الجمعة 04 فبراير 2022 10:08 م
لا ثورة بلا جيش يحميها.. تأملات في الثورات العربية والأجنبية

لا ثورة بلا جيش يحميها.. تأملات في الثورات العربية والأجنبية

جنوب العرب - لندن

إن الثورة تمرّد بشري، غوغائي في بعض أوجهه، على الرؤساء والملوك والحكومات.

تمرّد البروليتاريا على الأرستقراطية، تمرد ثوري من أجل وضعٍ أكثر عدلاً، فإذا نجح تمردهم أقاموا دولتهم ومرروا دستوراً جديداً يقضي بالاستيلاء على أموال النبلاء وأصحاب الأراضي وتوزيعها عليهم تحت مظلة العدل والمساواة كما حدث في الثورة البلشفية، علاوة على تبرؤ الثورة من ديون الدولة الخارجية.
بالنسبة للنبلاء والملاك، تعتبر الفاشية على مساوئها وغطرستها الوطنية، بلا شك مذهباً أفضل، إذ تحافظ على الملكية الفردية تحت نظر دولتهم علاوة على توجيههم.

وبين استبداد البروليتاريا وغطرسة النبلاء، يقع الحل في القول المأثور"من أين لك هذا؟". فهو الحل الجذري لمعضلات النظام الإقطاعي الحديث، وهو العدل الذي يجب أن تتبناه كل الأنظمة، والثورة التي يجب أن تطالب بها الطبقات الكادحة، ذلك لأنها تحافظ على ملكيتهم الفردية من المصادر المشروعة والتحفظ على الأموال غير المشروعة، وهذا يؤدي بدوره إلى إحداث توازن اجتماعي سليم. قول يضمن للشرائح الاجتماعية كلها التعايش في سلم جنباً إلى جنبٍ، لأنها تُحدث تقارباً اقتصادياً بينهما إلىَ حدٍّ ما.

لكن النفس الثورية التي تطالب بالمساواة نفس طامعة غير راضية، وإني أؤمن أن النفس الثورية ما تثور من أجل الاستبدادية الثلاثية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل أؤمن أيضاً أنها هي التي تثور أيضاً من أجل السيادة والزعامة أيضاً.
وليس أدل على كلامي من الثورة الفرنسية التي ما استتب الأمر لها إلا بعد معارك دموية وتصفية الثوار بعضهم بعضاً على نصل المقصلة، ثم انطلقت تستعمر وتبطش.

انطلاق الفوضى مع الثورة
إن أسباب الثورة راكدة في رحم الفقراء والطبقة الكادحة المسماة اصطلاحاً بـ"البروليتاريا" وقليل من الطبقة البرجوازية، ولكنها لا تولد وتنمو وتتضخم إلا بوقوع حدث مؤثر في أفراد الطبقة الكادحة.


والمتدبر في شؤون الثورات العربية والعالمية يلحظ ذلك، فنجد مثلاً في ثورة "الياسمين" التي اندلعت أحداثها في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 تضامناً مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في نفس اليوم، تعبيراً عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطية فادية حمدي.


وإذا عدنا إلى الوراء حيث الثورة الفرنسية، نجد أنّ اقتحام سجن الباستيل في الرابع عشر من يوليو/تموز لسنة 1789، وقتل مأموره وتحرير سجنائه كان يمثل نقطة انطلاق قوية لإحداث تغيير راديكالي كامل من خلال ثورة عارمة لاحقة.

في النموذج الإيراني نجد أن انتهاج الدولة آنذاك لسياسة التأوْرُب المتوسع جثم على صدور الشعب، ما أحدث صراخاً مفاده اندلاع الثورة الإيرانية سنة 1979 لتقويض نظام الشاه برمته.
إن الثوار لغتهم الصراخ والفوضوية، هذا الصراخ المتولد من الضغط الفسيولوجي واستبدادية حكامهم، والصراخ يجرجر إلينا مطالب عشوائية غير مدروسة، وهذا طبيعي لأنها تأتي فجأة وتنطلق كالبرق بينما يقف النظام مشدوهاً ولا يجد سبيلاً لتكميم الأفواه أو الحد من نبرتها إلا الأساليب القمعية.
وللأسف فإن مثل هذه الهبّات الفجائية صيرورتها الفوضى لأنها تنطلق من رحم مطالب طوباوية، والتي يستحيل فيها النظام تلبية تلك المطالب، علاوة على مسارها الفاشل بسبب عدم وجود رؤوس لها قادرة وراغبة في السيطرة والقيادة.

عوامل الهدم والبناء في الثورة

  • تأثير الجيش في الحركات الثورية

تبدأ الثورة بالصراخ المصحوب بمشاعر الغضب والتشدق بمطالب طوباوية عريضة، وهذه مرحلة فاسدة تقوم على مقاييس فاسدة، ووجب على النظام حينها التعامل معها بكل السبل التي تؤدي إلى الحوار السليم حتى تضعف الثورة وتقوى حجة النظام.
وغالباً تستمر الثورة تلك في مطالبها سواء قوبلت بالوسائل السلمية أو العنيفة.

وبالنظر إلى الثورة نجد عوامل تؤثر عليها، فمثلاً وقوف الجيش ضد الثورة يُنذر بشر مستطير، وعندها لا أجد مخرجاً إلا بالكف عنها، كذلك أيضاً الكف عن المسيرات الاحتجاجية السلمية، واستبدال هذا كله برفع مطالبهم عن طريق فئة منهم أو عن طريق إعلام معارض للنظام إلى الجيش نفسه.


أمّا لو أقر الجيش الثورة فيجب على النظام نفسه تلبية جميع مطالب الثوار ما دامت منطقية، حتى ولو كان مطلبهم رحيل النظام، حيث إن الجيش من المفترض أن يكون مؤسسة مستقلة عن الحكم وليس له مصلحة في تقليد حاكم أو عزله.
ولو وقف الجيش على الحياد فلا بأس من امتداد المد الثوري، ويجب أن يستجيب النظام عن طريق القيام بإصلاحات منطقية. وثورات العالم الأجنبي والعربي خير برهان على ذلك.

من مصر إلى تونس

فلننظر مثلاً إلى النموذج المصري، فهو نموذج مزدوج، حيث وقف الجيش مع ثوار 25 يناير 2011، فنجحتْ الثورة، وعندما وقف ضد المسيرات الاحتجاجية والاعتصامات الرافضة للانقلاب العسكري باءتْ تلك بالفشل، ونجم عنها آلاف الضحايا بعد فض اعتصامَي رابعة والنهضة، علاوة على سفك الدم بعد ذلك الناجم من المسيرات والاحتجاجات في الشوارع.


أما النموذج التونسي، 17 ديسمبر/كانوالأول 2010، فقد وقف الجيش موقف المتفرج المترقب حتى شاهد بنفسه انتصار الثوار التي لم يفلح الرئيس بن علي في وأدها، فقد كان موقف الجيش مائعاَ إلى حدٍّ كبير، رغم رفضه لأوامر الرئيس بن علي القاضية بمشاركة الجيش في مواجهة الاحتجاجات إلى جانب قوات الأمن، وكان رفض قائد جيش البر رشيد عمار لأوامر بن علي بمثابة نهاية لحكم الأخير للبلاد.
ومن الثورة الروسية، نجد أيضاً وقوف الجيش بجانب الثورة البلشفية، انضمتْ القوات المسلحة للعمال. فالجنود الذين تم إرسالهم من قبل الحكومة لقمع أعمال الشغب كثير منهم انضم إلى المتظاهرين، وأطلقوا النار على الشرطة، مع هذا التفكك انهارتْ فاعلية السلطة المدنية. وقدمتْ الحكومة استقالتها إلى القيصر الذي اقترح دكتاتورية عسكرية مؤقتة، ولكن قادة المؤسسة العسكرية الروسية رفضوا هذه الدور. وعندما وصل القيصر إلى العاصمة اقترح قادة الجيش ووزراؤه المتبقون تنازل القيصر عن سلطاته وعرشه، وفي اليوم التالي ألقي القبض على القيصر.


وفي الثورة الفرنسية كان أكثر الجنود من الطبقة البرجوازية والفقراء، وكان معظم قادتهم من طبقة النبلاء، ما صعّبَ عليهم السيطرة على الجيش، ولم يكن للجيش دور فاعل في الثورة، إذْ إنّ الثورة قامتْ بدونهم ولم يجد الملك أي سبيل في استخدام الجيش لمنع سقوط الملكية وقمع الثوار. بل إن الجنود كانوا يتمردون على قادتهم بل وهاجموهم، ما تسبب في رحيل أكثر الضباط وترك البلاد، ويتبين من ذلك أن الجيش كان جزءاً من الثورة بحكم غالبية طبقتي البروليتاريا والبرجوازية فيه.

  • تأثير انقسامات الفئات الثورية وحركة الثورات المضادة

من ضمن العوامل الفاعلة في مصير ومسيرة الثورة أيضاً انقسام النخب الثورية، بسبب اختلاف الأيديولوجيات واعتماد سياسة الحكم للأقوى والأكثر عدداً.
ففي مارس/آذار من عام 1793 اندلعتْ ثورة الفلاحين في فيندي، غربي فرنسا، وسرعان ما اتسمتْ بصفة الثورة المضادة ومناصرة الملكية بزعامة الجيش الملكي الكاثوليكي، ما حدّ من حركة الثورة الجمهورية. ثم بدأ عهد الرعب بقيادة روبسبير لإبادة جميع المعارضين لمسار الثورة. واتسمت هذه المرحلة بالتطرف الهائل والدموية الفظيعة، حيث أُعدم العديد من القيادات، قرابة 40 ألف فرنسي أُعدموا على المقصلة غالبيتهم من الفلاحين والعمال.
وفي التجربة التونسية فقد استتبَ الأمر فيها إلى حدٍّ ما، ولكن الدولة العميقة حتى الآن تعمل جاهدة لاستعادة النظام القديم بثورة مضادة، بجمع عناصر من الداخل، ومدفوعة من الخارج لاستنهاض الثورة المضادة، لعل من أهمها بعض بارونات الحكم السابق وحزب التجمع الدستوري المنحل وجماعات سياسية يمينية ويسارية متطرفة.
ولعل المفارقة أن يستغل قادة الثورة المضادة جهل الشعب وضعف الوعي الثقافي لديه، ولا تزال هناك أجهزة إعلام رسمية وخاصة مملوكة لأتباع الرئيس المخلوع بن علي، تقوم على إحباط الشباب واستعادة النظام القديم.

وضع الدستور

من الطبيعي أن يكون وضع الدستور المرحلة الأخيرة من الثورة، وإنْ واكبها صعوبات أثناء إقراره بسبب اختلاف أيديولوجية الثوار.
ومن المعضلات الرئيسية أن تكون مؤسسات الدولة أساس النظام القديم، ولا أجد حلاً جذرياً لهذه المعضلة إلا عن طريق مناصري الثورة الذين يعملون في تلك المؤسسات، واتخاذهم دليلاً في التخلص من الفاسدين بالعزل دون القتل.
والمعركة لن تنتهي إلى هذا الحد، فما زال السوس ينخر في عصب دولة الثوار عن طريق المسؤولين المنافقين، الذين ما زالوا يتقلدون المناصب الحساسة في جسد الدولة، ومن خلفهم الحانقون الذين تم عزلهم من مؤسساتهم لفسادهم، وكذلك الدولة العميقة التي تحاول العمل على تحريض الشعب للقيام بثورة مضادة.
واعلموا أن الدنيا لا تستقر على حال، فجيل الثوار لن ينتهي مطلقاً، وما ثار اليوم سيُثار عليه غداً في الأزمنة المتعاقبة.
لكن حاذروا من الثورات، لأنها بحور من الدماء، وتحدّقُ في وجه الفناء!

التعليقات

ملفات ساخنة

الجمعة 04 فبراير 2022 10:08 م

 أوقفت فرقة أمنية مختصة عددا من القياديين في جبهة الإنقاذ الإسلامية المنحلة، وذلك في أعقاب بيان منسوب لما يعرف بمجلس إطارات الجبهة الإسلامية للإن...

الجمعة 04 فبراير 2022 10:08 م

برز ملف فاغنر في ليبيا مؤخرا بشكل بارز عقب اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، والمخاوف من انتقالها إلى الجنوب الليبي. ومع مقتل زعيم فاغنر يفغيني بري...

الجمعة 04 فبراير 2022 10:08 م

تسعى الصين إلى توسيع نفوذها الأمني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، متخفية تحت غطاء الشركات الأمنية الصينية الموجهة لحماية رعايا بكين في المنطقة، مستفيد...

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر