مقصلة الإعدام على طاولة التفاوض: كيف تناور القاهرة في أكثر ملفاتها الحقوقية دموية؟
في تحول لافت يعكس استراتيجية جديدة، انتقلت الحكومة المصرية من الرفض القاطع لمجرد مناقشة تجميد عقوبة الإعدام، إلى إبداء مرونة غير مسبوقة وفتح الباب أمام نقاشات كانت حتى الأمس القريب من المحرمات. فبينما تتصاعد أرقام أحكام الإعدام، تخوض القاهرة دبلوماسية حقوقية ناعمة، تهدف إلى إدارة الضغوط الدولية أكثر من كونها مقدمة لإلغاء العقوبة.
هذا التحول الدراماتيكي تجلى بوضوح خلال المراجعة الدورية الشاملة أمام مجلس حقوق الإنسان الدولي، حيث قبلت مصر لأول مرة توصية تدعو إلى "النظر في تجميد تنفيذ عقوبة الإعدام". ورغم أن القبول جاء "جزئياً" ومشروطاً "بالظروف السياسية والأمنية والثقافية"، كما صرح عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان علاء شلبي، إلا أنه يمثل كسراً لجدار الصد الذي بنته القاهرة حول هذا الملف لسنوات.
استراتيجية "التفاوض المرن"
يرى مراقبون أن الموقف الجديد لا يعبر عن تغيير جوهري في العقيدة الأمنية للدولة، بل عن تبني "استراتيجية تفاوض مرنة" في القضايا الحقوقية الشائكة. فبدلاً من الرفض الذي يثير الانتقادات، اختارت الحكومة الدخول في حوار منظم.
ويوضح أيمن نصري، رئيس المنتدى العربي الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان، أن القاهرة لم تعد تغلق الباب، بل أبدت استعداداً لتنظيم ورش عمل ومؤتمرات لمناقشة الأمر. هذه الاستراتيجية تسمح لها بتقديم رؤيتها وأسباب تمسكها بالعقوبة في جرائم الإرهاب والجرائم التي تهدد الأمن القومي، مع إظهارها بمظهر الدولة المنفتحة على الحوار.
وتعزز هذه القراءة الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع التوصيات؛ فبينما قبلت 264 توصية بشكل كلي، استخدمت عبارة "منفذة بالفعل" بشأن 43 توصية حساسة، منها قصر الإعدام على الجرائم الأشد خطورة، في إشارة إلى أن التعديل التشريعي الأخير الذي يسمح بالتصالح في قضايا القتل هو استجابة كافية.
واقع متناقض: حوار في جنيف وأحكام في القاهرة
تأتي هذه المرونة الدبلوماسية في وقت يكشف فيه الواقع على الأرض عن صورة مغايرة تماماً. فتقرير منظمة العفو الدولية وضع مصر في المرتبة الثامنة عالمياً في تنفيذ أحكام الإعدام لعام 2023. كما رصدت منظمات حقوقية محلية صدور 380 حكماً بالإعدام في عام 2024 مقابل 348 في العام الذي سبقه، وتنفيذ العقوبة بحق 13 شخصاً، ما يشير إلى منحى تصاعدي.
هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والواقع يثير تساؤلات حول جدية النوايا الحكومية. فبينما تُبدي القاهرة استعدادها لمناقشة التجميد، تستمر المخاوف الأمنية من عودة التنظيمات الإرهابية في تغذية الاعتراضات على أي تخفيف للعقوبة، ما يجعل الملف ساحة صراع بين الضغوط الحقوقية الدولية والمقتضيات الأمنية الداخلية.
ماذا بعد؟
من المتوقع أن تستخدم الحكومة المصرية هذه الفترة لتدشين حوارات مجتمعية وقانونية ودينية، لتصل في النهاية إلى موقف يرفض التجميد الكامل، مستندة إلى أن "الوضع الداخلي في مصر لا يتماشى مع تجارب الدول الغربية"، وأن الأمن القومي يقتضي الإبقاء على العقوبة كرادع.
وفي هذه المعادلة المعقدة، قد يلعب المجلس القومي لحقوق الإنسان دوراً ضاغطاً، مدفوعاً برغبته في تحسين تصنيفه الدولي المتراجع. لكن المؤكد أن القاهرة أثبتت امتلاكها سياسة جديدة تقوم على التفاوض والمناورة لكسب الوقت وتحسين سجلها الحقوقي نظرياً، مع الاحتفاظ بكامل سلطتها في تطبيق ما تراه ضرورياً أمنياً. يبقى السؤال الأهم: هل ستؤدي هذه الحوارات يوماً ما إلى تغيير حقيقي، أم ستظل مجرد أداة لإدارة الانتقادات في أكثر الملفات المصرية إثارة للجدل؟