ولكن استئناف الحرب أو توقفها لفترة لا يتوقف فقط على الفلسطينيين والإسرائيليين؛ لأن الحرب بينهما ما هي إلا واجهة لثلاث حروب ملتفة حول بعضها البعض وتكون فيما بينها حالة بالغة التعقيد. فالصراع الإسرائيلي الفلسطيني ما هو إلا واجهة حرب أخرى بين إسرائيل وإيران باتت ممتدة في البر والبحر، وداخل الأراضي الإيرانية وخارجها في العراق وسوريا ولبنان والخليج والبحر الأبيض وبحر العرب، ويستخدم فيها سلاح الجو والصواريخ وأشكال من الحرب السيبرانية. ما استخدمته «حماس» من صواريخ أثناء حرب غزة الرابعة، كلها أنواع مختلفة من صاروخ «بدر» الإيراني، وهو منذر باستخدام أنواع أخرى من الطرازات الإيرانية، ومعها أشكال جديدة من الطائرات المسيّرة. هذا التدخل الإيراني في حرب غزة يشكل رداً على عمليات القصف والاختراق المستمرة لأهداف إيرانية بدأت بمنشأة «نطنز» في إيران، ولم تنته في قواعد وأحزاب «الحشد الشعبي» في العراق و«حزب الله» في لبنان وسوريا. ولا يقلل من قسوة الحرب الإيرانية الإسرائيلية أن إيران متشابكة مع الولايات المتحدة في محاولة لعودة الاتفاق النووي بين البلدين مرة أخرى؛ فالحقيقة أن الطرفين يستخدمان الحرب الأولى لخدمة أهدافه من المفاوضات وفقاً لقاعدة أن الحرب والتفاوض هما تعبيرات وأدوات سياسية لتحقيق أهداف عليا.
وإذا كان العامل الإيراني يعقد الحرب الفلسطينية الإسرائيلية بما فيه الكفاية، فإن الحرب الثالثة تأخذها إلى أسقف جديدة لأنها تدور في الإطار الإقليمي كله. هي حرب بين قوى الاستقرار الدائرة في المنطقة بعد أحداث ونتائج «الربيع العربي» المزعوم التي امتدت لعقد كامل من تاريخ المنطقة؛ وقوى أخرى لعدم الاستقرار وجعل الثورات مستدامة. القوى الأولى أدواتها الإصلاح العميق في الداخل، وإطفاء الساحات الملتهبة في الجوار القريب سواء في ليبيا أم السودان أم العراق أم سوريا أم لبنان؛ وبالتأكيد فلسطين. والقوى الثانية تريد إبقاء جذوة الفوضى مشتعلة باستخدام أدوات آيديولوجيات وتنظيمات متطرفة، والمراهنة على ما تثيره القضية الفلسطينية من غضب في المنطقة. القوى الأولى تقع في مقدمتها مصر والسعودية ومعها عدد من الدول العربية التي تعتمد الاستقرار هدفاً والإصلاح غاية؛ والقوى الثانية تقع في مقدمتها إيران التي تراهن على الجماعات الشيعية التابعة لها، وعلى الجماعات السياسية الدينية لـ«الإخوان المسلمين» من ناحية أخرى، وعلى جماعات في الدول التي اشتعلت فيها عواصف التغيير ولم تنطفئ بعد. وليست مصادفة أن الصواريخ التي استخدمتها «حماس» هي إيرانية الطراز، تماماً كتلك التي استخدمتها جماعة الحوثيين في اليمن، واستخدمها «حزب الله» من سوريا ولبنان. إسرائيل في هذه المعادلة حتى الآن ليست قوة استقرار، وإنما قوة عدم استقرار بما تستمر من استيطان وبما تدفع إليه من شقاق مع الأقلية العربية في إسرائيل، والاعتداء على المواقع الدينية الإسلامية في القدس وتهديد سكانها من العرب بالإخلاء، والموقف السلبي من الجماعات اليهودية المتطرفة والعنيفة، وحدوث ذلك رغم وجود ست دول عربية في حالة سلام مع إسرائيل، مضافاً لها العديد من الدول العربية الموقعة على المبادرة العربية للسلام.
الحروب الثلاث متشابكة ومتقاطعة، وربما لا يكون فيها أمر جديد مما اعتاد الشرق الأوسط عليه من حروب وأزمات، ربما يزيدها احتقاناً أن أطرافاً وقوى إقليمية، تريد لهذه الحالة الاستمرار والاستدامة، وذلك جنباً إلى جنب مع عمليات الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة بعد محاولات فاشلة لبناء الدولة في العراق وأفغانستان بعد تمزيقها في مشروع لديمقراطية من نوع خاص. ولكن الحقيقة هي أن الإصلاح العميق في عدد من الدول العربية القائدة والقائم على التنمية الاقتصادية والاجتماعية الواسعة والسريعة، يمثل اتجاهاً مقاوماً لهذا التوجه، ويستدعي ضرورة الإصلاح الإقليمي العميق أيضاً. ويقوم هذا التوجه في إطاره العربي أولاً على الدولة الوطنية بما لها من أصالة الحدود وهوية التاريخ في ماضيه ومستقبله. وثانياً على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واستناداً إلى قاعدة أن أهل مكة أدرى بشعابها. وثالثاً على السعي المستمر للسلام وتحقيق التعاون الإقليمي وهو ما قطعت في سبيله خطوات من خلال «السلام الإبراهيمي» ومنتدى شرق البحر الأبيض المتوسط وكلاهما أقام أسساً جديدة للعلاقات الإقليمية لم تعرفها المنطقة من قبل. ورابعاً حل المشكلات المزمنة في المنطقة بما فيها المعضلة الفلسطينية التي ثبت أنها قد تسكن أحياناً ولكنها لا تموت، وفي الحالتين فإن يقظتها عنيفة، وبجوارها مشاكل ومعضلات الأقليات التي يمكن حلها في حدود وضفاف وطنية الدولة، وهي الأمور الحيوية في العراق وسوريا. وخامساً أن الجهود التي تبذلها مصر حالياً وبتأييد كبير من السعودية مضافاً لها دول عربية أخرى، يمكنها أن تذهب إلى ما هو أبعد من وقف إطلاق النار وتثبيته.