سكتت المدافع وتوقف أزيز الطائرات وصافرات إطلاق الصواريخ، وتمكن الهدوء على جبهة قطاع غزة، وبعد أيام من الحرب تراجع نصيب القتال في استوديوهات التلفزيون التحليلية، وفي أعمدة الصحف اليومية، ووجد المشتبكون على أدوات التواصل الاجتماعي قضايا أخرى للإثارة، وبات على كل طرف أن يعود مرة أخرى إلى ما كان عليه من قضايا محلية قطعت عليها المعارك ما كان فيها من شهوة.
التمهيد للعودة غلب عليه الحديث عن انتصار تاريخي من نوع أو آخر، لم يكن مهماً عدد القتلى ولا كم الجرحى ولا مدى التدمير. ولا حتى ما جرى الكشف عنه من تناقضات مزمنة، وعودة لقضايا تاريخية ساد الظن أنها ذهبت وراحت، أو أن التعايش بين العرب واليهود في مدن إسرائيلية كان شائعة لا أساس لها عندما تغيب المساواة، ويسود ظلم تاريخي. لم تكن هناك مساءلة، ولا لجان تحقيق، ولا مراجعة لمسار الحرب، ولا تساؤل واحد عما إذا كان ممكناً تجنب المواجهة، أو أنها بعدما حدثت وفَّرت فرصة للبحث عن سلام جديد. في تاريخ المنطقة والصراع كانت هناك حروب فتحت الباب لمحادثات ومفاوضات سلام مثلما حدث بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973؛ وحتى بعد حرب تحرير الكويت التي كانت منبتة الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي ومع ذلك فرضت مؤتمر مدريد، ومن بعده اتفاقيات سلام بين الأردن وإسرائيل، وعقدت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو مع إسرائيل، لتقوم بعدها أول سلطة وطنية فلسطينية على أرض فلسطين. انفرط كل شيء بعد ذلك حينما فشلت المفاوضات في كامب ديفيد وبعدها نشبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مسلحة هذه المرة، ومن بعدها صارت الحروب والاشتباكات بلا ثمن ولا مفاوضات، ولا إدراك أنه لا يوجد اختيار آخر سوى البحث عن سلام. جرت ثلاث حروب في غزة قبل الحرب الأخيرة الرابعة، وفي أعقابها جرى دون جدوى البحث عن سبيل بعد وقف إطلاق النار. وعلى مدى عقد كامل ظلت القضية الفلسطينية مسجلة في الأوراق، ولكنها منسية خارجها.
هذه المرة، وكما فعلت في الحروب السابقة، وبدعم من السعودية ودول عربية أخرى، سعت مصر إلى وقف إطلاق النار، ومن بعده تثبيته، وبدء رحلة طويلة للبحث عن حل لا يجعل الحروب ولا التعمير من بعدها كأنها دورات مكتوبة، وأقدار لا يمكن الهروب منها. كان الجديد الذي أتى إلى ساحة الحرب أنَّ المنطقة التي عاشت ربيعاً عربياً مزعوماً أعقبته رياح الإخوان المسلمين والإرهاب والحروب الأهلية المروعة، عرفت أنَّ أولى الخطوات كي تخطو المنطقة كلها إلى بر السلام والازدهار هي أن تبدأه بعملية إصلاح وتحديث داخلي عميقة. كان شرط «الدولة الوطنية» أساسياً، وتنمية الثروات المتنوعة جوهرياً، وفتح باب المشاركة لجميع المواطنين من ملل ونحل وأجناس لا يمكن تخطيه. جرى ذلك من خلال رؤية «2030» أحياناً و«2035» أحياناً أخرى؛ ولم تكن الفترة الزمنية أكثر من إطار يمكن القياس على ما كان قبله، وما جاء بعده؛ ووسيلة للمقارنة مع بقية العالم الذي سار في ذات المسار من قبل. تفاصيل ذلك واجبة في مقام آخر، ولكن النقطة الواجبة هنا هي أنَّ الدخول إلى «ما بعد غزة» من زاوية التعمير والعمارة يعبر عن تفكير تنموي بقدر ما هو «جيو سياسي». وبعد تولي جوزيف بايدن السلطة بأسابيع قليلة أرسل وفداً استطلاعياً إلى المنطقة كي يقيس الحرارة والنبض؛ فجاء الاستنتاج أن العواصم التي زارها، بما فيها القاهرة والرياض، مشغولة تماماً بعملية البناء الداخلي. ولعل ذلك كان سبباً فيما جاء بعد ذلك عندما بدأ الرئيس الأميركي أثناء حرب غزة في التقدير والمصداقية لدى الدول العربية إزاء القتال المحتدم في غزة.
وإذا قيل صدقاً إن السياسات الخارجية هي امتداد للسياسات الداخلية، فإن السلوك العربي إبان الحرب كان يقوم أولاً على أن الحرب ينبغي أن تكون آخر الحروب، وثانياً أنه لا يمكن تعمير غزة في دورات متعاقبة دون بحث عن سلام يجعل التعمير والبناء عملية مستدامة. وللحقيقة فإن مصر تعرف جيداً كيف يمكن أن تدار عمليات السلام بحكم خبرات كثيرة جمعتها خلال الزمن، وجرى حفظها وممارساتها من قبل مؤسسات عريقة. ولكن الخبرة تحتم أيضاً أن أول شروط الكلام هو أن يكون هناك عنوان واحد لطرفي المواجهة. المشكلة في كل حروب غزة السابقة كانت أن «الفصائل الفلسطينية» تبدأ بناء الدولة الفلسطينية بالانقسام إلى وحدتين سياسيتين. وربما جاء الجديد في الأمر أن إسرائيل هي الأخرى ربما كانت آخذة في الانقسام إلى «فصائل إسرائيلية» تجمعت شكلياً في حكومة جديدة جميع أطرافها ليس له في السلام نصيب كبير. وللحق فإن نتنياهو لم يكن نصيراً للسلام، ولكنه كان عنواناً واحداً للرفض والقبول؛ وهذه المرة فإن العنوان الواحد صار عناوين متعددة معظمها على اليمين وبعضها على اليسار، ولأول مرة في التاريخ يشارك حزب «القائمة العربية الموحدة» بقيادة منصور عباس. أصبح التعقيد شاملاً، لإصلاحه وفك عقده، ربما يكون هناك انفراط كامل، ما لم تجر انتخابات حقة في فلسطين، وأخرى خامسة في إسرائيل، بكل ما تعنيه الانتخابات من فرقة وصراع داخلي.
ورغم ذلك كله فإنه لا يمكن تجاوز المهمة، ليس فقط لأن الاستقرار الإقليمي جزء مهم من عمليات البناء الداخلي، وإنما لأن الإقليم لا يملك ترف حروب أخرى. والواقع يقول إن هناك تحركاً إقليمياً للتهدئة والبحث عن أدوات دبلوماسية للتفاعل، وما تحرك الأزمة الليبية المشتعلة إلى حالة سياسية تسير وفق خريطة طريق، إلا إشارة على سبل جديدة للتفاعل. الأزمة في النهاية كانت سبيلاً للتهدئة بين مصر وتركيا بل وتجنب صراع كان يمكن انفجاره. التهدئة التي جرت على جبهات قطر المتعددة وفقاً لميثاق «العلا» انتهت إلى أشكال للتعاون والتقدير. الجهود العراقية الأخيرة لفتح طرق تخرج العراق من مأزقه الجغرافي، وتفتح الطريق لتفاهمات إقليمية، لا تجعل المنطقة أسيرة الوجود أو الغياب الأميركي. ولكن القضية الفلسطينية، والأخرى الإسرائيلية، ليست مثل كل القضايا، وما جعلها أكثر تعقيداً تداخلها مؤخراً مع الراديكالية الإسلاموية ممثلة في جماعة الإخوان والعلاقات القائمة بين حماس وإيران. هذا التداخل خلق عمليات اصطفاف إقليمية ودولية جديدة، ورغم التعاطف الشديد مع الفلسطينيين الذي ظهر حتى من الحزب الديمقراطي علي ضفاف الكونغرس الأميركي؛ فإن المواقف الألمانية والنمساوية لم تأت إلا من تقدير يجري تحت طائلة الإرهاب الذي عرفته أوروبا خلال العقد الماضي. مثل هذا التعقيد الجديد لا يصرف جهداً واجباً عن الاستمرار في مسيرة تربط السلام والإصلاح والأمن الإقليمي في رباط واحد، فالفرص التي تأتي في أعقاب الحروب لا تأتي فقط للشعوب والدول والكيانات التي شاركت فيها، وإنما للإقليم الذي تعيش فيه. حرب غزة الرابعة لا ينبغي أن تكون رقماً في سلاسل الحروب، وإنما تكون حافزاً كي تكون في حلقات السلام. كيف يحدث ذلك، تلك هي المسألة؟!