تدور في وسائل الإعلام والاتصال والفضائيات والتحركات على الأرض نقاشاتٌ وأحاديثُ ومقابلاتٌ، إن دلّت على شيء، فعلى الضياع الكامل. انشغلنا أولاً بآثار ما صار يُعرف بالربيع العربي، وبالسياسات التي يمكن أن تؤول إليها الإدارة الأميركية الجديدة. ومع أنّ المقاربات ظلت في غالبها سريعة وتخمينية، قلنا لا بأس، فموضوع التغيير الذي أثارته تحركات الجمهور في المشارق والمغارب عام 2011، يستحق المراجعة وإعادة التقويم باعتباره تفكيراً في المستقبل. أما التحسُّب لما تفعله أو قد تفعله إدارة بايدن، فأمرٌ يستحق الاهتمام بالفعل، بالنظر للمصائب التي أنزلها بالبلاد العربية التدخل الإيراني ثم التدخل التركي، وبالنظر لما نزل بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية أيام أوباما وترمب!
لكنّ الأمور ما لبثت وخلال وقتٍ قصير، أن تردّت حتى وصلت إلى حدّ انشغال العالم كله بالهجمات الحوثية على مأرب، وبالاستعصاء في سوريا، وبعودة التظاهر إلى الجزائر، وعدم القدرة على تشكيل حكومة في كلٍ من لبنان وتونس. وحتى إلى الخلاف الساطع بشأن مقابلة أجرتها قناة «العربية» مع رغد بنت صدام حسين!
إنّ هذه الظواهر من كبيرها إلى صغيرها، جوهرها أمرٌ واحدٌ هو المقارنة بين الماضي والحاضر، وتفضيل الماضي عليه. في اليمن، وبعد حرب السنوات الستّ، وأمام إصرار الحوثيين على تخريب كل شيء، وقتل كل الناس، عاد الإعلاميون والسياسيون لتفضيل عهد علي عبد الله صالح على الوضع الحاضر. وفي سوريا يقول بشار الأسد إنه هو الأوحد، وإنه هو ووالده كانا الأفضل لسوريا، وإنّ التفكير في غيره يعني المأساة الكاملة. إلى ذلك يقال إنّ عهد زين العابدين بن علي كان الأفضل لتونس، مقارنة بزمن ما بعد الثورة وظهور راشد الغنوشي على الساحة السياسية، وكذلك الأمر مع عهد القذافي الذي استمر لاثنين وأربعين عاماً، ويكثر اليوم الترحم عليه، بل والتطلع إلى ابنه! أما في لبنان فيبلغ اليأس مما وصلت إليه الأحوال حدود دعوة البطريرك الراعي إلى مؤتمرٍ دولي لاستعادة الدولة والاستقرار، بعد العجز ليس عن تشكيل حكومة فقط؛ بل وحتى العجز عن توزيع اللقاحات ضد «كورونا» بطرائق شفافة ومنصفة! وكل هذه المقارنات والمقاربات تعجز عن الوصول إلى ما وصلت إليه رغد بنت صدام بالزعم أنّ عهد والدها العظيم أفضل بكثير من وضع العراق بعد عام 2003 وحتى اليوم! والمأمول ألا يضطر جزائريون للذهاب إلى أنّ عهد بوتفليقة كان أفضل من الوضع الراهن!
ما الذي تعنيه هذه الظواهر جميعاً؟ إنها تعني العجز الكامل، والضياع الكامل إلى حدّ تخيُّل فضائل للأزمنة التي مضت ولم تنق، فلماذا وصلت الأحوال العربية إلى هذا المآل؟ إنه ليكاد المرء أن يذهب إلى أنّ الأوضاع العربية في بؤسها الشامل فريدة من نوعها في العالم المعاصر، لولا انقلاب الجنرالات في بلدٍ مماثلٍ في بؤسه هو ميانمار (بورما سابقاً)!
نعم، قبل حركات التغيير عام 2011، كان المراقبون الدوليون يتحدثون تارة عن الاستثناء الإسلامي، وطوراً عن الاستثناء العربي. وكانوا يعنون بذلك تارة أنّ الإسلام ضد الديمقراطية، أو أنّ «الجينات» العربية لا تعرف غير القائد والعربة. نعم، لقد ظهرت انطباعاتٌ إيجابية عن شباب التغيير. وما كانت تلك انطباعات المراقبين الخارجيين فقط، بل وانطباعات «الشارع العربي» إذا صحَّ التعبير. لكنّ ذلك ما استمر لأكثر من سنتين أو ثلاث. وذلك لثلاثة أسباب: تفاقم «الظاهرة الإسلامية» واستيلاء العنف والإرهاب في أوساطها، والتدخلات الإقليمية والدولية وتغلغلها في الدواخل، إما بحجة الدفاع عن الأنظمة القديمة أو الخوف على أمنها - وقلقُ الناس المشروع من استمرار الاضطراب والتوجُّس من اللادولة. وفي حين بدا أنّ تونس وحدها توشك أن تنجو فتستعيد الدولة قوامها؛ فإنّ البلدان الأُخرى وقعت في أسوأ الحلول: الإيرانيون والروس أبقوا على بشار الأسد، واللبنانيون انتخبوا للرئاسة الجنرال عون وقد ظلوا يتجنبون راديكاليته لنحو عشرين عاماً، والعراقيون آثروا العبادي على المالكي لمقاتلة الإرهاب بمساعدة الأميركان، والجزائريون صبروا على بوتفليقة الذي كان ينبغي أن يذهب عام 2013. أما اليمنيون الذين ظنوا أنهم تخلصوا من صالح، فإنّ الجنرال عاد إليهم وقد امتطاه الميليشياويون الحوثيون الذين كادوا ينجحون في الاستيلاء على البلاد، لولا تدخل الجيران الخليجيين من أجل حماية اليمنيين، وحماية أمنهم هم من إيران ومذهبياتها، لكنّ الحرب ما تزال مستعرة.
بعد عشر سنوات على «زلزال الربيع» صارت الأمور - باستثناء مصر - أشدّ سوءاً وهولاً. فقد كانت للأنظمة الاستبدادية القديمة التي قيل إنها تمثل استثناءً سلبياً غربياً أو إسلامياً، فضيلة واحدة ووحيدة هي الاستقرار الذي كان مفروضاً، لكنه استقرارٌ على أي حال. وهي الفضيلة التي ما عادت موجودة في أي مكان.
لماذا ضيّع الناس الأمل وصار بعضُهم يصغي حتى إلى أوهام أمثال رغد بنت صدام؟ لأنه وبعد عشر سنواتٍ تنتشر الميليشيات التابعة للخارج في كل مكان، وهناك ملايين القتلى، وملايين المهجرين، وخراب الإنسان والعمران. وإلى ميليشيات الخراب والقتل والتهجير، هناك الانهيار المالي والاقتصادي والأمني. وسيقول قائل: لكن ليس في تونس والجزائر ميليشيات! وهذا صحيح، لكنّ السياسيين والعسكريين المتنفذين يعملون كأنما هم ميليشيا، أبرز صفاتها: الإصرار على التسلط مرة باسم الانتخابات، ومرة من دون حجة! ولنتأمل الأوضاع الاقتصادية في بلدين غنيين مثل العراق والجزائر، لنجد أنّ الحكم غير الرشيد لا يحتاج إلى ميليشيا من أجل تبرير الإفلاس الاقتصادي والأخلاقي. فكيف إذا اجتمع الأمران: الميليشيا ونهب المال العام، في بلد كان غنياً مثل لبنان!
الجمهور الساخط اليوم في بلدان الاضطراب والقتل والتهجير هو جمهور القتلى والمعتقلين والمهجرين والمشردين والذين فقدوا كل شيء في ديارهم وخارجها. وهؤلاء وأمثالهم وهم بعشرات الملايين، يكون من الطبيعي أن يتذكروا الماضي القريب والبعيد. لكنهم على المظلومية الهائلة التي وقعت عليهم، ليسوا هم الأقدر على التفكير في المستقبل. فالحلّ ليس في أمثال صدام وابنته، ولا القذافي وابنه، ولا الأسد وأخيه، ولا عون وصهره. ونحن لسنا في مضيقٍ بين عون وباسيل ونصر الله. بل لا بد من التفكير في خيارٍ ثالثٍ ليس فيه طغاة ولا قتلة ولا مافيات سياسية. لقد سمعتُ المتظاهرين الجزائريين يطالبون بالحكم المدني الرشيد، من دون عسكر ومن دون فساد سياسي. وهو الأمر الذي نحن جميعاً محتاجون إليه! ولو من دون شعارات كالديمقراطية والحريات! أرأيتم كم انخفضت التوقعات؟!