بقايا رئاسة الحكومة اللبنانية

الجمعة 04 سبتمبر 2020 5:54 م

بثباتٍ وصبرٍ، والكثير من الجرأة، تتحرر مؤسسة رئاسة الحكومة، الشيعية، في العراق، من براثن الهيمنة الإيرانية. لا ضمانة أن تنتهي هذه المعركة إلى حيث يريد لها أصحابها، لكن مجدهم أنهم يحاولون، بصدق وشجاعة.
بثبات مشابه تتحوَّل مؤسسة رئاسة الحكومة، السنية، في لبنان، إلى لعبة إيرانية، وتواصل انحدارها من سيئ إلى أسوأ.. من ألق رفيق الحريري إلى «لا شيء» هذا الاسم أو ذاك.. الأسماء تفاصيل.. لا شيء.. المحصلة عدم كامل في المخيلة والمبادرة والقدرة والتحفز والاستعداد.. عدم!!
مر مرور الكرام، كلام وزير سابق في حكومة سابقة، هو وزير العدل اللبناني شارل رزق، أنه كان يناقش زعيم ميليشيا «حزب الله» حسن نصر الله، في كل تفصيل من تفاصيل نظام المحكمة الخاصة بلبنان، قبل الاتفاق عليها بين الحكومة والأمم المتحدة.. لم تثر هذه القنبلة السياسية ما كان ينبغي أن تثيره. صحيح أن المحكمة انتهت إلى إدانة مسؤول أمني رفيع في «حزب الله»، وأن نصر الله حفر بيديه فخه هذا، بيد أن اعتراف الوزير رزق قدم دليلاً حسياً على كيفية إدارة لبنان تحت وصاية «حزب الله». وكشف عن حجم التكاذب والتوريات التي تعمي أبصار اللبنانيين عن واقع دولتهم ونظامهم السياسي، لا سيما حين يقول نصر الله إنه لا يعترف بالمحكمة، ويتنصل من كل علاقة بها، وبقراراتها، وبكل ما يصدر عنها، بعد مناقشته كل تفصيل فيها!
اكتفى الرجل بأكل العنب. تدخل في شل المحكمة بالمقدار الذي يناسبه ويقدر عليه، لا سيما شل قدرتها على النيل من الرئيس بمسؤوليته عن عمل مرؤوسيه، أو قدرتها على تجريم حزب أو منظمة أو حكومة! كل ما سيصدر بعد ذلك يمكنه بلعه وهضمه في ظل الاختلال الخطير في ميزان القوى على الأرض.
القبول بهذا الواقع يومها كان له ما يبرره ربما. شيء بمثابة تقبيل يد «حزب الله»، وتهيئة الظروف لكسرها، بحكم يؤكد مسؤولية الحزب عن قتل رفيق الحريري.
ما الذي يبرر اليوم القبول بأن يختار «حزب الله»، ووفق شروطه، رئيس حكومة لبنان؟ لا شيء، سوى الشعور العميق بالإفلاس، والإعلان عن استقالة حاسمة من الفعل السياسي، والمبادرة، أو على نحو أدق، محاولة يائسة من معظم القوى الرئيسية للحفاظ على موقع لها ضمن تركيبة «نظام حزب الله»، الذي يضم حلفاء الحزب وخصومه جميعاً.
التركيبة، كل التركيبة، تدافع عن نفسها في مواجهة جزء كبير من الناس، الذين ما عاد يهمهم من يحظى بالصفة التمثيلية، ومن لا يحظى بها. وما عاد يهمهم العيش في ظل كذبة الديمقراطية اللبنانية التي تحولت إلى ماكينة مزيفة بمهمة وحيدة:
شرعنة الوجود السياسي للقتلة والفاسدين، لا أكثر ولا أقل...
في ظل هذا السواد العميم، ثمة بارقة أمل واحدة، تأتي من جهة الكنيسة المارونية. الصرح الذي قاد ولادة لبنان الكبير قبل مائة عام.
ثمة خطاب مسيحي ينمو، ولو ببطء، نحو منطقة اشتباك استراتيجي مع سلاح «حزب الله»، وإن لم يتحول بعد إلى اشتباك أعمق وأشمل مع «نظام حزب الله» بكامله.

كلام الكنيسة عن الحياد كلام كبير، ويكاد يكون الكلام الوحيد الذي يدرك ويرى ويفهم أن المنطقة برمتها تشهد تغييراً عميقاً واستراتيجياً في وظائف كياناتها، ودولها، وهو ما يطرح على اللبنانيين، أو يجب أن يطرح عليهم، أسئلة أعمق وأعقد حول الدور الذي يريدونه لبلدهم، وأن يقرروا بشكل عاقل وموضوعي ماهية الشروط المؤسسة لهذا الدور.
فأولاً، هناك الجهد العراقي، المصري الأردني (الأخيران في واقع اتفاق سلام مع إسرائيل)، لبناء منظومة «مشرق جديد» قاعدته التعاون الاقتصادي والاستقرار الأمني والإدارة العاقلة لعلاقات حسن الجوار، وفق شروط الدول الوطنية والشرعيات الدستورية. أين لبنان في هذا الحراك الكبير؟
ثانياً، هناك منظومة شرق المتوسط، الغازية والنفطية (وإسرائيل جزء رئيسي فيها)، بكل رهاناتاها وصراعاتها الحدودية البحرية والبرية، وبكل إمكانات التغيير التي تحملها، للواقع السياسي والاقتصادي في المنطقة. مرة أخرى، أين لبنان، كدولة حوض متوسط، من هذا الحراك الكبير؟ أين لبنان أكثر في ضوء فقدان عاصمته لمرفئها الذي صنع العاصمة وشكل حجر الأساس للسياق التاريخي لتكونها على حوض المتوسط!!
ثالثاً، هناك الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، وما قد يليه من اتفاقات بين إسرائيل ودول عربية أخرى، الذي في ضوئه عاد الحديث عن مشروعات بنية تحتية عملاقة، تربط كيانات المنطقة، واقتصاداتها، ما يمهد لا لمشرق جديد بل لشرق أوسط جديد. مرة أخرى أين لبنان من كل هذا؟
وحدها الكنيسة المارونية في لبنان تبدو متنبهة لحجم هذه الزلازل السياسية والاقتصادية، ذات الطبيعة التغييرية البنيوية في الإقليم، ووحدها تنتج خطاباً يربط بينها وبين سلاح «حزب الله»، من زاوية أي دور يراد للبنان، وأين موقعه في التغيير الحاصل.
ما أخشاه أن تقف معركة الكنيسة عند سقف ما يسمى قرار السلم والحرب، أي أن تنحرف المعركة مع السلاح من معركة حول جوهر السلاح إلى سجال تقني حول قرار السلاح.
يجب التنبه لأن تقزيم الأزمة على هذا النحو هو المنطق الذي لا يمانع «حزب الله» في جر الجميع إليه. ففي نهاية الأمر، ينطوي هذا المنطق على اعتراف غير واقعي بأن «حزب الله» مقاومة، وأنه بهذه الصفة يُخاطَب من شركائه في الوطن، في حين أن المقاومة، أي مقاتلة إسرائيل، باتت النشاط الأقل أهمية في سلوكه.
«حزب الله» ليس مقاومة، باعتراف نصر الله، الذي بشر اللبنانيين مؤخراً أن مسؤوليته التدخل في كل جبهات المنطقة، مثله مثل أميركا!!
ولنقل صراحة، إن مشكلات لبنان مع إسرائيل ليست من النوع الذي يحتاج إلى الترسانات التي يطورها ويراكمها الحزب استعداداً لحروب محتملة، حساباتها إيرانية، وقرارها إيراني، ونتائجها تسيل لحساب إيران.
«حزب الله» هو سلاحه التدخلي هذا، والسجال معه يجب أن يذهب إلى هذه المنطقة تحديداً، لأنه، وحسب نتائجها النهائية، يتحدد موقع لبنان ودوره. فهل لبنان جزء من مصالح المنطقة في لحظة إعادة التشكل الاستراتيجي الحاصلة في المشرق وحوض المتوسط والخليج، أم أداة اعتداء وشغب عليها بيد محور إيران - تركيا - قطر؟
المشكلة بهذا المعنى هي السلاح، وليس قرار السلاح، وهذا ما يرتجي أن تذهب الكنيسة باتجاهه. وهي بصراحة لن تقوى على ذلك إن بقيت على تحفظها تجاه الهجوم المباشر على رئيس الجمهورية.
أما قوى «نظام حزب الله»، أي حلفاء الحزب وخصومه، فهنيئاً لهم تشكيل حكومة سرايا ولاية الفقيه.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر