ليس أصعب من الكتابة عن ذكرى مرور 20 عاما على موت حافظ الأسد في مثل هذه الأيّام من العام 2000. كان الرجل شخصية في غاية التعقيد والذكاء والدهاء. صنع دورا لسوريا في المنطقة، لكنّه فشل في إيجاد مستقبل لسوريا. هذا ما تؤكدّه الأحداث التي تمرّ فيها سوريا وهذا ما يؤكّده الواقع الذي تشير إليه الاحتلالات الخمسة التي على الأرض السورية.
ثمّة فارق كبير بين صنع الدور وصنع المستقبل، خصوصا عندما يكون الدور على حساب بناء اقتصاد متين ودولة القانون والمؤسسات التي لا مكان فيها للاستيلاء على المال العام أو للطائفية والمذهبية وفرض الخوات على كبار التجّار والصناعيين.
استطاع حافظ الأسد أن يعمل ما لم يستطع أي رئيس سوري عمله منذ الاستقلال في العام 1946 أسّس لنظام لا يزال قائما منذ خمسين عاما. نجح في توريث السلطة، بما يذكّر بكوريا الشمالية، لكنّه فشل حيث كان يفترض أن ينجح لو فكّر ولو قليلا بأنّ فرصا كثيرة أتيحت له كي يبني اقتصادا متينا وان يعيد كبار رجال العمال السوريين إلى بلدهم والاستثمار فيه في جوّ من الحرّية وليس في ظلّ القيود التي يفرضها الشريك العلوي أو أحد أبناء الشخصيات السنّية النافذة.
لم يدرك حافظ الأسد يوما أهمّية الاقتصاد والدور الذي كان يمكن لرجال الأعمال السوريين لعبه على صعيد سوريا نفسها والمنطقة كلّها. لم يكن كافيا المحافظة على النظام كي يصبح ممكنا المحافظة على البلد. النظام شيء والبلد شيء آخر. هذا ما لم يدركه حافظ الأسد الذي عرف كيف يطوّع السوريين ويجعل من نفسه شبه إله في بلد متنوّع كان مفترضا أن يكون احد أهمّ بلدان المنطقة بسبب ثرواته الطبيعية من جهة والثروة الإنسانية من جهة أخرى.
برع حافظ الأسد في استغلال نقاط الضعف عند خصومه، مثلما برع في استخدام القمع والقسوة حيث يجب والذهاب إلى أبعد حدود في المرونة متى دعت الحاجة إلى ذلك. هل من مرونة اكبر من تلك التي أظهرها حافظ الأسد، قبيل وفاته، عندما اضطر إلى طرد الكردي التركي عبدالله أوجلان من الأراضي السورية بعدما هدّد الأتراك بأن جيشهم سيدخل الأراضي السورية من حلب ويخرج من الجولان؟
لعب حافظ الأسد كلّ الأوراق التي امتلكها بحنكة. كان وزيرا للدفاع عندما احتلّت إسرائيل الجولان في العام 1967. كوفئ على ذلك، بأن أصبح رئيسا لسوريا في شباط – فبراير 1971 بعد نجاح “الحركة التصحيحية” التي قادها في 16تشرين الثاني – نوفمبر 1970. لم يكتف بالتخلّص من خصومه، بل سجنهم طويلا ولم يطلق أيّا منهم إلّا بعدما تأكّد أنه صار على شفير الموت. هذا ما حصل مع صلاح جديد (توفّي في سجن المزّة) ويوسف زعيّن وغيرهما. كان حافظ الأسد رجلا من دون قلب وراء ضحكة هادئة وأعصاب فولاذية. لعلّ نجاحه الأوّل كان في الإمساك بالطائفة العلوية وسقوط كلّ رهانات خصومه على أنّ في استطاعتهم الرهان على منافس له من داخل الطائفة. جعل من السجين صلاح جديد ومن محمّد عمران الذي أرسل من يغتاله في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني في العام 1972، أمثولة لكلّ من يريد أن يعتبر.
في مرحلة لاحقة، صار، على من لم يقتنع بعد بأن لا فائدة من الدخول في مواجهة مع حافظ الأسد، أن يتذكّر مدينة حماة وما حلّ بها وبأهلها في العام 1982. لكنّ الإنجاز الأكبر لحافظ الأسد، كان على الصعيد الخارجي. استخدم الفلسطينيين أفضل استخدام كي يحتلّ لبنان ويضع المسيحيين تحت رحمته قبل أن ينتفض هؤلاء مجددا بعد اكتشافهم أنّ حلف الأقلّيات ليس في مصلحتهم، خصوصا أنّه كان عليهم أن يكونوا تابعين للرئيس السوري العلوي في إطار هذا الحلف. بدأ حافظ الأسد عهده اللبناني باغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في العام 1977 عن طريق الضابط العلوي إبراهيم حويجة. كان اغتيال الزعيم الدرزي رسالة إلى كلّ الزعماء اللبنانيين بأنّه صارت لديهم مرجعية في دمشق. من لم يرضخ، جرى تأديبه على طريقة حافظ الأسد. اغتيل بشير الجميّل في 1982 ثم اغتيل رئيس الجمهورية الآخر رينيه معوّض في 1989… أمّا التنكيل بالزعماء السنّة، فحدّث ولا حرج…
بقي الحليف الأكبر لحافظ الأسد، في كلّ وقت، عدوّه اللدود صدّام حسين. لعب الأسد الأب في كلّ وقت ورقة البعث السوري في مواجهة البعث العراقي. لعب، أقلّه ظاهرا، ورقة صمّام الأمان في مواجهة روح المغامرة التي لدى صدّام الذي لم تكن له في يوم من الأيّام علاقة بالسياسة في أي مجال من المجالات.
لم يقطع العرب مع النظام السوري، حتّى عندما انحاز إلى إيران ودعمها في وجه العراق في حرب السنوات الثماني بين 1980 و1988. لم يرسل حافظ الأسد إلى إيران، بطريقة مباشرة، صواريخ كي تقصف بها بغداد. كلّف معمّر القذّافي بهذه المهمة.
في مرتين أنقذ صدّام حسين حافظ الأسد سياسيا. كانت المرّة الأولى عندما صالحه بعد زيارة أنور السادات للقدس في العام 1977 وذلك بغية تشكيل جبهة عربية عريضة ضدّ مصر. لا شكّ أن أحمد حسن البكر الذي كان رئيسا للجمهورية في العراق لعب دورا أساسيا في تلك المصالحة بين حزبين يحملان اسم البعث.
في المرّة الثانية أعاد صدّام الاعتبار لحافظ الأسد باحتلاله الكويت صيف العام 1990. استغلّ الأسد الأب تلك الفرصة لينضم إلى التحالف الدولي الذي تولّى تحرير الكويت بقيادة أميركا. كانت تلك خطوة في غاية الذكاء. لم يستطع حافظ الأسد من خلال مشاركته إلى جانب الأميركيين في إعادة تأهيل نظامه فحسب، بل ضمن أيضا السيطرة الكاملة على لبنان عندما اخرج ميشال عون، الذي ارتبط بعلاقة خاصة مع صدّام، من قصر بعبدا.
بين احتلال إسرائيل للجولان في حزيران – يونيو 1967 وبين تكريس احتلالها له في أيامنا هذه، يتبيّن أن هناك لغزا، اسمه سرّ صمود نظام حافظ الأسد طوال نصف قرن.
هل تُكشف أسرار هذا اللغز في يوم من الأيّام؟ هذا ليس أكيدا. ما هو أكيد أنّ التوريث كان الخطأ الذي توقف عنده دهاء حافظ الأسد. لم يدرك أن ابنه بشّار سيقضي على سوريا، قبل أن يقضي على النظام.
لم يدر أنّ سوريا كانت تحتل لبنان في السنة 2000، لكنها خرجت منه في 2005 نتيجة جريمة اغتيال رفيق الحريري. ففي السنة 2020، تفتتت سوريا. لم يعد النظام قائما. صار السؤال أي مستقبل لسوريا وهل بقي ما يورثه بشّار الأسد لابنه حافظ على الطريقة الكورية الشمالية