من الطبيعي وصول لبنان إلى ما وصل إليه. أكثر من طبيعي أن يصل العراق، البلد الغني بموارده وثرواته الطبيعية، إلى شفير الهاوية. عندما تحكم أحزاب مذهبية ذات مرجعية خارجية بلدا ما لا يعود هناك ما يدعو إلى الاستغراب. لا مكان يسير إليه هذا البلد الذي تحكمه ميليشيات مذهبية سوى الكارثة المحققة مع ما تجلبه من خراب ودمار وبؤس وفقر.
كانت هناك مخارج لدى لبنان كما كانت هناك مخارج لدى العراق في حال اعتماد المنطق والحكمة، لكنّ هناك للأسف من يريد تجاوز المنطق والحكمة وإدخال بلده في متاهات خدمة لسياسات لا علاقة لها لا بلبنان ولا بالعراق. إنّها سياسات تصبّ في خدمة مشروع إيراني لا أفق له تعاني منه إيران نفسها حيث لا تزال الثورة الشعبية تحت الرماد.
هناك انسداد سياسي واقتصادي كامل في لبنان. ما ينطبق على لبنان ينطبق أيضا على العراق حيث البحث عن شخصية تافهة تتولّى موقع رئيس الوزراء. المخيف في الأمر أنّه سيكون صعبا في المدى المنظور إعادة تركيب لبنان أو العراق. قد يكون أسهل إعادة تركيب العراق على الرغم من كلّ ما أثبتته الصيغة اللبنانية من مناعة. هذا عائد إلى التركيبة المختلفة للعراق من جهة وإلى وجود موارد كبيرة لديه، في مقدّمها النفط، من جهة أخرى. فضلا عن ذلك، إن الذي يشهده العراق هو ثورة بكلّ معنى الكلمة. من يقوم بهذه الثورة هم الشيعة العرب الذين يجدون أنّ لا خيار أمامهم غير مقاومة المشروع الإيراني، نظرا إلى أنّ في ذلك مصلحتهم.
أمّا لبنان، فما يحصل، مع مرور كل يوم، يتمثّل في الغرق أكثر في وحول الكارثة في غياب من يريد استيعاب معنى الثورة الشعبية التي بدأت في السابع عشر من تشرين الأول – أكتوبر الماضي والتي دخلت أخيرا مرحلة جديدة في ضوء بروز قوى مذهبية تسعى إلى استخدام العنف في مواجهة التحرّكات الشعبية السلمية.
أكثر من ذلك، هناك اقتصاد لبناني يعاني من مرض خبيث يوجد من يريد معالجته بقرص إسبيرين. الأكيد أن تكليف شخص مثل حسّان دياب تشكيل حكومة لا يقدّم في شيء. على العكس من ذلك، إن شخصا من هذا النوع يعرف القاصي قبل الداني أنّه مرشّح “حزب الله” وأنّ إمكاناته محدودة، حتّى لا نقول معدومة، على كل صعيد، يمثل الطريق الأقصر إلى الكارثة المحققة التي ستغيّر طبيعة لبنان وتركيبة مجتمعه والتوازن الذي أمكن المحافظة عليه، وإن في حدود معيّنة، بعد اتفاق الطائف قبل ثلاثين عاما.
لعبت المناصفة التي كرسّها اتفاق الطائف دورها في تمكين المسيحيين من إنقاذ نفسهم، من نفسهم أوّلا. وما لبثت فترة مشروع الإنماء والإعمار بعد العام 1992 أن سمحت بعودة آلاف العائلات المهاجرة إلى لبنان. كانت هناك عائلات مسيحية كثيرة عادت إلى البلد في تلك المرحلة. هذه العائلات تفكّر حاليا في مكان تهاجر إليه مجدّدا في ظلّ الرهانات الخاطئة لدى مدّعي تمثيل المسيحيين. على رأس هذه الرهانات أن سلاح “حزب الله” يمكن أن يعيد للمسيحيين حقوقهم!
لا يشبه هذا الرهان سوى رهان بعض المسيحيين على صدّام حسين في 1988و1989 و1990، وهو رهان انتهى بالاجتياح السوري لقصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة في 13 تشرين الأول – أكتوبر 1990 وفرض الوصاية السورية على كلّ لبنان.
يفترض في اللبنانيين أن يتذكّروا هذه الأيام أنّ موجة الهجرة الأكبر للمسيحيين من بلدهم كانت في العامين 1989 و1990 عندما كان الجنرال ميشال عون في قصر بعبدا على رأس حكومة لا مهمّة لها سوى المساعدة في انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في الثالث والعشرين من أيلول – سبتمبر 1988.
ما يحصل حاليا بعد عودة الجنرال ميشال عون إلى بعبدا كرئيس للجمهورية، بفضل “حزب الله” أوّلا، هو تمهيد لموجة هجرة أخرى من لبنان، للمسيحيين خصوصا. هذا عائد إلى رفض الاعتراف بأنّ الخيار الوحيد أمام لبنان، في حال كان مطلوبا تفادي الكارثة، تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري أو نوّاف سلام تضم اختصاصيين فقط.
وحده منطق الحكمة والتعقل يمكن أن ينقذ لبنان مثلما يمكن أن ينقذ العراق بعيدا عن أيّ مكابرة من أيّ نوع. من يعتقد أنّ هناك مصلحة لبنانية أو عراقية في الانحياز إلى إيران في المواجهة التي تخوضها مع الإدارة الأميركية ودول الخليج العربية يرتكب جريمة في حق لبنان واللبنانيين والعراق والعراقيين. كلّ ما يستطيع لبنان عمله هو إيجاد مسافة بينه وبين المشروع الإيراني الذي لا يهمّه ما يمكن أن يحلّ بالبلد أو بمواطنيه، مثلما لم يهمّه يوما مستقبل العراق والعراقيين باستثناء موضوع تحويل العراق جرما يدور في الفلك الإيراني، على غرار ما كانت دول أوروبا الشرقية تدور في الفلك السوفياتي قبل سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989.
سيتدبّر العراق أمره في نهاية المطاف، خصوصا مع ظهور روح وطنية عراقية لدى الشيعة والسنّة في الوقت ذاته. لديه من الثروات الطبيعية ما يسمح له بإعادة الحياة إلى اقتصاده يوما، بغض النظر عن الدرجة التي بلغها الفساد. الأهم من ذلك كلّه، أنّ الصراع الداخلي في العراق بدأ يأخذ منحى واضحا في مواجهة المستعمر الإيراني، في حين يعاني لبنان من شخصيات مسيحية تؤمن غطاء لـ”حزب الله” ولا تستوعب خطورة أن يصبح من يختاره الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، رئيسا للجمهورية في 2016 وأن ينتقل إلى مرحلة يقرّر فيها في 2019 من هو رئيس مجلس الوزراء السنّي.
هذه مرحلة خطيرة دخلها لبنان في غياب من يستوعب مدى التدهور الاقتصادي الذي ستكون له آثار مدمّرة على مستقبل البلد وعلى تركيبته الاجتماعية والتوازن بين الطوائف. لا يوجد حاليا في لبنان من يفكّر فعلا في البحث عن مخرج. من يبحث عن مخرج لا يأتي بحسّان دياب لتشكيل حكومة وكأن لديه ثأرا على أهل السنّة. من يريد مخرجا يبحث عن حكومة اختصاصيين منفتحة على العالم والعرب من دون عقدة سعد الحريري ولا عقدة الأميركيين ولا عقدة صندوق النقد الدولي لا أكثر ولا أقل…
لن يكون من مخرج أو على الأصح من بداية مخرج في ظلّ حكومة “حزب الله”. لبنان لا يستطيع أن يصبر وأن يعتبر أن الوقت يعمل لمصلحته. عامل الوقت متوافر لبلد مثل العراق، ليس أسير قطاعه المصرفي، يمتلك ثروات وإمكانات تمكنه من الصمود طويلا، بل أكثر مما يعتقد.