اليوم أعلن المشير خليفة حفتر، القائد العام لما يُسمّى الجيش الوطني الليبي، بِدء المعركة الحاسِمة والتقدّم نحو مدينة طرابلس، ودعا قوّاته المُتقدّمة بالالتِزام بقواعد الاشتِباك قائلًا “اليوم نُعلِن المعركة الحاسِمة والتقدّم نحو قلب العاصِمة”، وأضاف دقّت ساعة الصّفر”.
الكثير من المُراقبين يضعون أيديهم على قُلوبهم خوفًا من أن تؤدّي هذه الخطوة التي تتزامن مع تصعيدٍ مُتفاقم بين مِصر وتركيا حول ليبيا إلى حُدوث مُواجهات عسكريّة، سواءً بطريقٍ مُباشرةٍ أو غير مُباشرة، على أرضيّة الاتّفاق البحريّ الذي وقّعته حُكومة الوِفاق التي يرأسها السيّد فايز السراج مع نظيرتها التركيّة الذي يُقسِّم شرق المتوسّط الغنيّ بالغاز بين البَلدين.
فالسُّؤال المُلِح حاليًّا هو عمّا إذا كانت حُكومة الوفاق التي يرأسها السيّد فايز السراج ستَطلُب نجدة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي تعهّد بحِمايتها، وكيف سيكون ردّ مِصر، الدّاعمة الرئيسيّة للمشير حفتر إلى جانب الإمارات في هذه الحالة، وهل ستَقصِف طائراتها السُّفن التركيّة المُحمّلة بالجُنود والمَعدّات في حالِ وصولها إلى الموانئ الليبيّة؟
التوتّر بين مِصر وتركيا بدأ بعد تقدّم قوّات “الجيش الوطني” التّابع للمشير خليفة حفتر في طرابلس، وقصف طائِراته لأهدافٍ في ميناء مِصراته الذي تَصِل عبره المَعدّات العسكريّة التركيّة الدّاعمة للحَركات الإسلاميّة التي تُشكِّل العصَب العسكريّ الرئيسيّ لحُكومة الوفاق.
الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان خلَط جميع الأوراق في المِلَف الليبيّ عندما أعلن استعداده إرسال قوّات ومَعدّات عسكريّة إلى ليبيا إذا استنجدت به حُكومة السراج التي تستمد شرعيّتها من اتّفاق الصخيرات الذي رعَته الأمم المتحدة، الأمر الذي آثار غضب الدّول الدّاعمة للمشير حفتر مِثل مِصر ودولة الإمارات العربيّة المتحدة وروسيا وفرنسا.
***
الدّعم العسكريّ المِصريّ لقوّات حفتر ظهَر علانيّةً في شريط فيديو نشره الإعلام الحربي التابع لحفتر ظهرت فيه دبّابة “تاغ تيرير” المِصريّة الصُّنع، وتُعتَبر الإنتاج الأحدث لهيئة التّصنيع العسكريّ، وجاء هذا الظُّهور كرَدٍّ على استعدادِ تركيا للتدخّل عَسكريًّا لدعم حُلفائه في ليبيا.
حُكومة الوفاق التي يتزعّمها السيّد السراج لا تملك جيشًا قويًّا، وتعتمد على قوّات الحركات الإسلاميّة المُسلّحة في طرابلس ومصراته، ولكنّها تمتلك الشرعيّة الأُمميّة، وهي شَرعيّةٌ تتآكل في ظِل تقدّم قوّات حفتر، واتّساع دائرة التّحالف الجديد المُناهِض لتركيا في شرق المتوسّط ويضُم اليونان وقبرص ومِصر وإسرائيل والأردن وإيطاليا والسّلطة الفِلسطينيّة، الذي تأسّس تحت مِظلّة “مُنتدى غاز شرق المتوسّط” واستبعد تركيا، ورفضت كُل من سورية ولبنان الانضِمام إليه، وهو تحالف ظاهره “غازي” وباطِنه عَسكريّ.
الرئيس أردوغان بدأ يَشعُر بالخطر من جرّاء هذا التّحالف الذي يُطوّق بلاده، خاصّةً أنّه يضُم اليونان ومِصر ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، الأعداء الرئيسيين لبِلاده، ولهذا استقبل السيّد السراج في 27 من شهر تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي في إسطنبول ووقّع معه الاتّفاقات البحَريّة والعَسكريّة التي صعّدت التوتّر ووحّدت أعداء تركيا، ودفَعت باليونان إلى طَرد السّفير الليبي.
ليبيا تنتظر عود الثّقاب الذي يُمكن أن يُشعِل فتيل الحرب الثّانية التي ربّما تكون أكثر شراسةً من الأُولى، فإعلان المشير حفتر وقوّاته بِدء الهُجوم على قلب العاصِمة طرابلس قد يُشكِّل هَزيمةً كُبرى لتركيا وحُلفائها، وتوحيد الدولة الليبيّة تحت علَم قوّات المشير حفتر إذا لم يتم التصدّي لها، ولا نعتقد أنّ الرئيس أردوغان سيقبَل بهذه الهزيمة ويتخلّى عن حُلفائه بالتّالي، ومن غير المُستَبعد أن يُرسِل أيضًا قوّات ومُدرّعات إلى طرابلس ومصراته في هُجومٍ مُماثلٍ لنظيره في شِمال سورية.
مِصر ربّما تُرسِل دبّابات ومعدّات عسكريّة وطائرات وسُفن بحريّة إلى ليبيا لدعم حليفها حفتر في مُواجهة حُكومة الوفاق التي تقول وسائل إعلامها إنّها واقعةٌ تحت سيطرة الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة، وخاصّةً حركة الإخوان المُسلمين، ولكن من المُستَبعد أن تُرسِل حُكومة الرئيس السيسي قوّات بريّة، إلا إذا كانت هذه الخطوة هي الخِيار الأخير.
الرئيس أردوغان قال إنّه لا يتمنّى أن تتحوّل ليبيا إلى سورية أخرى، والرئيس السيسي يتنبّأ بحلٍّ شامِلٍ للأزَمة الليبيّة في غُضون الأشهُر الستّة المُقبِلة، مُلمِّحًا إلى الحَل العسكريّ، ولكن الوقائع على الأرض تقول إنّ الحرب بالإنابة بين مِصر وتركيا على الأراضي الليبيّة إذا اندَلعت ستكون أخطر بكثير من الحرب السوريّة.
***
الشّعب الليبي هو الذي دفَع ثمن الحرب الأُولى من دِمائه وثرواته وتَحوُّل بلاده إلى دولةٍ فاشلةٍ، وباتَ نصفه يُعاني من التشرّد في دوَل الجِوار المِصري والتونسي والجزائري، ومن المُؤكّد أنّ من تبقّى صامِدًا على الأرض الليبيّة سيكون وقود الحرب الثّانية أيضًا، حِلف “الناتو” تخلّى عنه بعد الإطاحة بنِظام العقيد معمر القذافي وتركه يُواجه مصيره في وجه ميليشيات زعزعت أمنه واستقراره، والقِوى الإقليميّة قد تفعل الشّيء نفسه بحُجّة حِمايته ومصالحه، وتسوية خِلافاتها على أرضه.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ هل ستخوض مِصر حَربًا في ليبيا في وقتٍ تُواجه أُخرى أكثر شراسةً حول سد النّهضة في إثيوبيا؟ وهل ستتورّط تركيا في حربٍ أُخرى بعيدةً عن أراضيها بآلاف الكيلومترات وهي ما زالت مُتورِّطة في أُخرى في سورية، ومُحاطةً بجِوارٍ مُعادي مِن كُل الاتّجاهات؟
نحنُ نَقِف على أبواب “حرب الغاز” التي قد تندلع شرارتها الأُولى في طرابلس الليبيّة، وربّما تؤدّي إلى زعزعة استِقرار كُل دول الاتّحاد المغاربي وإعادة رَسم خرائط شرق المتوسّط، ومن غير المُستَبعد أن يكون الهدف تركيا، على غِرار ما حدث لعِراق صدام حسين في الكويت، فالمِصيدة الليبيّة جارٍ نصبها بإحكامٍ شديد.
لا نعتقد أنّ المشير حفتر يُمكن أن يُطلِق الرّصاصة الأُولى في حرب السّيطرة الكامِلة على طرابلس إلا إذا كان قد حصَل على ضُوءٍ أخضر من مِصر والإمارات وفرنسا وروسيا، وتَغافُلٍ من أمريكا.. والكُرة الآن في ملعب الرئيس أردوغان.. واللُه أعلم.