رفض سلطات جبل طارق البريطانية طلبا أمريكيا باحتجاز ناقلة النفط الإيرانية “غريس 1” ومصادرة حمولتها بناء على مذكرة صادرة بهذا الخصوص يشكل صفعة قوية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يقف خلف هذا الطلب، وتأكيدا على “تضعضع” الهيبة الامريكية أوروبيا وعالميا، ولكن كيف ستتطور الأمور، وكيف سيكون الفصل المقبل لهذه الازمة؟
بداية نجد لزاما علينا التوضيح دون مواربة والتأكيد بأن قرار الرفض قرار بريطاني بالدرجة الاولى، ولو كانت حكومة بوريس جونسون “المحافظة” التي ارتكبت خطيئة كبرى بإحتجاز هذه الناقلة بالأساس تلبية لطلب امريكي قبل ستة أسابيع، تريد عدم الافراج عنها تلبية للطلب الأمريكي لفعلت ذلك، ولكنها لم ترد، تجنبا منها للتورط في أي صراع عسكري مع ايران واذرعها في المنطقة، وتسترت خلف محكمة سلطات جبل طارق، وهذا التصرف هو عين الحكمة.
لا نعرف كيف ستكون الخطوة الاستفزازية الامريكية القادمة، فإصدار الأوامر للبوارج العسكرية الامريكية بالاعتداء على الناقلة التي سترفع العلم الإيراني وستحمل اسما جديدا (ادريان داريا) في محاولة لإجهاض النصر الإيراني، قد يشعل فتيل حرب الناقلات مجددا، لان ايران التي اعلن قائد القوات البحرية فيها اللواء حسن خانزادي انها مستعدة لارسال اسطولها لموافقة الناقلة لن تسكت على أي “قرصنة” أمريكية في هذا الاطار، وسترد بالقدر نفسه ان لم يكن اكثر، وتجارب الأشهر الماضية ما زالت ماثلة في الاذهان.
***
بريطانيا الدولة صاحبة السيادة الحقيقية في جبل طارق وجهت صفعتين قويتين للرئيس ترامب ومستشاره جون بولتون، الأولى عندما أفرجت عن الناقلة، والثانية عندما رفضت الطلب الأمريكي بمصادرتها، وهذا يعني ان احتمالات انضمامها للتحالف البحري الذي يسعى الرئيس الأمريكي لإنشائه لحماية الملاحة البحرية في الخليج باتت ضعيفة، ان لم تكن معدومة، بسبب ادارتها للمخاطر المترتبة على هذه السياسة الامريكية المتهورة.
قلناها في هذا المكان قبلا، ولا مانع من تكرارها مجددا، ايران لن تركع ولن ترفع الراية البيضاء، وستقاوم هذا التجبر الأمريكي الإسرائيلي بكل الوسائل حتى النهاية، وترجمت هذا التوجه عمليا عندما اسقطت طائرة مسيرة أمريكية اخترقت اجواءها، واحتجزت ناقلة بريطانية بالقوة واقتادتها الى ميناء بندر عباس في وضح النهار، وتحت تهديد السلاح، كرد على احتجاز ناقلتها في مضيق جبل طارق، ولا نستبعد الاستمرار في هذا التحدي، واحتجاز ناقلة، او سفينة حربية أمريكية في مضيف هرمز، او بحر عُمان، اذا ما أقدمت سفن الاسطول الأمريكي على احتجاز الناقلة المفرج عنها في جبل طارق.
للمرة الأولى تبدو الإدارة الامريكية “معزولة” في الشرق الأوسط، وعاجزة عن تشكيل تحالف قوي يدعم عقوباتها الاقتصادية ضد ايران، وهذا مؤشر قوي على ان سياسات الحصار المتهورة التي تضرب إدارة الرئيس ترامب بسيفها يمينا وشمالا، مثل النمر الجريح، لم تعد مجدية، وتعطي ثمارها الترهيبية المرجوة بالتالي.
الإيرانيون الذين يتربعون على قمة محور المقاومة الذي يضم عدة دول (سورية العراق الى جانب أذرع عسكرية ضاربة تملك خبرات قتالية عالية اقوى من كل جيوش دول المنطقة مثل “حزب الله، الحشد الشعبي، “انصار الله”، وحماس والجهاد)، باتوا يملكون اليد العليا في منطقة الشرق الأوسط، مدعومين بقوة ردع عسكري غير مسبوقة، وما تتعرض له كل من المملكة العربية السعودية وإسرائيل من هجمات في العمق في الوقت الراهن الا مؤشرات على احد جوانب الحرب التي تخوضها ايران بالإنابة ضد الخصم الأمريكي واتباعه، تمهيدا للحرب الكبرى اذا اندلعت.
الرئيس ترامب تعالى وتجبّر، وبالغ في فرض العقوبات والحصارات، واعتقد ان القوة العسكرية قادرة على إرهاب الخصوم في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، ونسي انه هُزم في سورية، وفي أفغانستان، وفي العراق، وسيهزم في أي مواجهة محتملة في مضيق هرمز، فالعبرة ليس في عدد الاساطيل، او البوارج الحربية، وانما بالقدرة على الصمود، والنفس الطويل في الحرب، والاستعداد للتضحية حفاظا على الكرامة الوطنية، وهذه عناصر متوفرة كلها لدى محور المقاومة وفصائله وقيادته.
***
ننصح الرئيس ترامب بمراجعة سياساته والكف عن التصعيد، وهو الذي تعهد في حملته الانتخابية بسحب قواته من منطقة الشرق الأوسط، وعارض الحروب فيها، وعدم تقديم مصالح إسرائيل على مصالح بلاده الاستراتيجية، حفاظا على سمعة بلاده وهيبتها وتجنبا لهزيمة مكلفة، خاصة انه يقف على اعتاب انتخابات رئاسية وشيكة، يتطلع للفوز فيها بولاية ثانية.
ندرك جيدا انه لن يستمع لنصائحنا، وربما لن يسمع عنها، واي نصائح أخرى تحمل المضمون نفسه من جهات عديدة داخل أمريكا وخارجها، لسبب بسيط لان صديقه بنيامين نتنياهو واللوبي الإسرائيلي في واشنطن يحجبون عنه كل ما يخدم المصالح الامريكية سواء كان ذلك كبيرا او صغيرا، وما هبوطه المؤسف الى درجة التحريض على منع عضوتي الكونغرس العربيتين المسلمتين الهان عمر ورشيدة طليب من زيارة فلسطين المحتلة الا أحد عناوين هذا الهبوط.
ايران انتصرت في الجولة الأولى من حرب الناقلات، وستحافظ على هذا الانتصار وتعززه، وباتت بالقياس على الوقائع العملية للمواجهات الأولية في البحار مستعدة للذهاب حتى آخر الشوط، ومهما كانت التكاليف، الا اذا تراجع الطرف الآخر واستسلم لشروطها.. واختار النزول عن شجرة التصعيد العالية جدا.. وتحلى بالعقل والحكمة.. والأيام بيننا.