بعد مشاهدة مسلسل «العاصوف» الذي عرض في رمضان الماضي والأسبق على شاشة «إم بي سي»، برزت أسئلة كثيرة من جيل التسعينات، الذين لم يعيشوا الحقبة التي تناولها المسلسل، ولا المتغيرات الاجتماعية المتدرجة التي ظهرت؛ خصوصاً في الجزء الثاني منه. أهم هذه الأسئلة: كيف تقبلتم الحياة المنغلقة بهذه السهولة دون احتجاج أو رفض؟ كيف رضيتم أن تكونوا ضحية سهلة لطيف واحد شدد عليكم دينكم، وحوَّل حياتكم إلى قفص كبير؟ جيل الشباب الجديد لم يفهم كيف نما التشدد الديني حتى أصبح طوقاً حول رقاب الناس، وأحال حياتهم إلى كآبة، وانطفأت معه جذوة الحياة الطبيعية. كانوا يلوموننا على الرضوخ، على عدم التمرد على الحياة المملة والانغلاق الخانق.
الإجابة ببساطة أن تيار قوى التشدد كان قوياً، جارفاً لكل من يحاول السباحة ضده، عبثاً كنا نحاول حتى النقاش، أو التذكير بأن أجدادنا عاشوا ديناً مسالماً، رحيماً، يسمو بالإنسانية، ويحث على عمارة الأرض، والعمل والتفاعل مع جميل خلق الله، للوصول للحياة الكريمة. لم يكن ضعفاً منا، كانت الثقافة الدينية المتشددة هي الثقافة السائدة، وهي من تمثل قوة المجتمع، وتحكم قبضتها حماية لها من أفكار التنوير والمراجعة. ومع الظروف السياسية التي أحاطت بنا (قيام الثورة الخمينية، واحتلال الحرم، وحرب أفغانستان، وتجذر وجود جماعة «الإخوان المسلمين»)، كانت قوى التشدد تزيد من هيمنتها. لم يكن هناك مهرب سوى التماهي معها في انتظار الخلاص. كل أطياف المجتمع من مثقفين وإعلاميين ومهنيين وأدباء، تحملوا ضربات موجعة في محاولاتهم لدق إسفين في جدار ما سمي «الصحوة»، وهو المصطلح الذي يشير إلى صحوة دينية بصبغة متشددة دخيلة على المجتمع السعودي المعتدل المحافظ.
وفي هذه الفترة عشنا مواقف وحكايات لا تعد، ولكل منا قصص تحملها الذاكرة بثقل؛ لكنها بكل أسف احتلت أجمل سنوات العمر وأزهاها.
أكثر المواطن التي احتلتها «الصحوة» بأفكارها ومنظريها هي مؤسسات التعليم، البوابة الرئيسية للدخول إلى الكنز الوطني، وهو النشء. في المدارس أقيمت مناشط لا يمكن تصديقها عجباً منها؛ لكنها حقيقة. أذكر أن في مرحلة الثانوية جاءت إحدى الطالبات يوماً وقد غيرت لون شعرها، وحينما جاء درس الحصة الدينية قالت المعلمة: هل تعرفون من هو الكائن الحي الذي خلقه الله بلون شعر أصفر؟ فقلنا: لا، فقالت: الحيوانات، الحيوانات هي التي خلقت بشعر أصفر، ومن تغير شعرها فهي تصبح مثل الحيوان. شعرت الطالبة بحرج كبير، وظلت طوال اليوم صامتة. ببساطة كانت الطالبة توبخ وتتعرض للسخرية والإهانة لأنها ارتكبت المحظور، وما أكثر المحظورات. خلال العام نفسه، تبرعت طالبة متدينة بإلقاء محاضرة عن رواية «أولاد حارتنا» للكاتب الكبير نجيب محفوظ. طبعاً الطالبة أخذت موافقة من الإدارة التي نظمت حضور الطالبات لحصة نشاط لا صفي. استعرضت المحاضرة بعض صفحات الرواية، واستدلت على أن الرواية محرمة قراءتها، وأن الكاتب استخدم مفردات شركية، وخلصت المحاضرة إلى تكفير الكاتب. وهذه الحالة من المثقفين كانت في مصر كذلك، وبسببها تعرض الروائي نجيب محفوظ إلى محاولة اغتيال.
القصص المشابهة لا تنتهي، ولا يكفي المقام لسردها؛ لكن الحقيقة أننا عشنا في حقبة كانت الأحكام الشرعية الأصل فيها التحريم، وليست الإباحة كما هو ثابت شرعاً. لم تكن المشكلة أبداً في التشريع الإسلامي؛ بل فيمن أعادوا تفسيره وطوعوه لصالح منفعتهم. وما أكثر المنتفعين الذين كانوا يتاجرون بمحاضراتهم الدينية المسجلة في شرائط الكاسيت، ومحاضراتهم في المدارس والجامعات والمساجد. الحقيقة كانت كل السبل ميسرة لهم ليتاجروا بالدين مقابل المال. الأحكام المحرمة لا نهاية لها: التصوير الفوتوغرافي، والغناء والموسيقى، والاختلاط في العمل، ودراسة الطب، والعمل في البنوك، وصوت المرأة، وكف المرأة، وعمل المرأة في مدينة بعيدة عن أهلها، وتفاصيل لبس المرأة... إلخ.
ولا شك أن الأحكام الأكثر تشدداً كانت تخص المرأة، وهذا يجعلني أخلص إلى أنها أكثر من عانى وحُرم من الحياة الطبيعية، هذا لأنهم يرونها القلعة المحرمة التي إن سقطت، سقطت معها آيديولوجيتهم، وبالتالي مصالحهم التي أثروا بسببها.
بعد هذه السنوات العجاف، بدأت بعض الانفراجات القليلة، مثل الدعوة إلى استصدار بطاقة هوية مستقلة للمرأة. قوبلت هذه الدعوة بغضب هائل، واستندوا إلى علة أن البطاقة تتطلب وضع صورة المرأة على البطاقة، وهذا أمر مرفوض كلية. الحقيقة الرفض لم يكن بسبب الصورة، السبب أعمق من ذلك. كان يمكن اقتراح استخدام البصمة بدل الصورة؛ لكن الفكرة أساساً كانت مرفوضة؛ لأنها خطوة أولى في جعل المرأة شخصية مستقلة قانونياً، بعيداً عن تبعيتها للرجل، وهذا أمر لا يساومون فيه.
خلال العقد الماضي، وأيضاً مع تغيرات سياسية واقتصادية، تحلحلت بعض الأمور المهمة، مثل استصدار بطاقة هوية للمرأة اختيارياً، بصورتها، ومع الوقت أصبحت الدولة من خلال مؤسساتها توضح أن هذا أمر مهم لتسيير أمور المرأة، وحل كثير من المعضلات؛ خصوصاً بالنسبة للمطلقات، حتى أصبح متطلباً ملزماً.
انطلق القطار بخطى منتقاة وبهدوء، وكان برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله. سافر كثير من السعوديات اللواتي كن محظوظات بتفهم وتشجيع من أسرهن؛ لكن العدد كان قليلاً في بداية المشروع. قرر الملك الراحل مشاركة المرأة السعودية بنصيب معلوم «كوتة» في مجلس الشورى، وكانت خطوة هائلة في سبيل تمكينها ومحاولة تخليصها من الانكفاء في الصف الأخير.
منذ بزغت شمس الاستراتيجية الوطنية السعودية «رؤية 2030» في عهد الملك الحكيم سلمان بن عبد العزيز، عكف مهندس الرؤية ولي العهد محمد بن سلمان على تفعيل الجزء المخصص للمرأة في هذه الوثيقة الوطنية، وقدم وعوداً أمام السعوديين وأمام العالم، وأوفى بها في غضون أشهر. هذه الوعود ليست اعتيادية؛ بل كانت «صدمة» لأولئك المتشددين، الذين تلاشوا من الساحة العامة شيئاً فشيئاً، حينما أدركوا أن زمانهم تبدل، وأن التيار غير اتجاهه. والحقيقة أن الصدمة كانت حتى لنا نحن، الجيل الضحية؛ لكنها صدمة الفرح والنصرة والفرج.
المرأة تقود سيارتها، وتعمل جنباً إلى جنب مع الرجل، في ظل تشريعات تحميها من الإيذاء. برنامج الابتعاث يكتظ بالفتيات اللاتي كبرت في نفوسهن الطموحات والآمال، والأسر أصبحت أكثر تفهماً وارتياحاً. وأخيراً، المرأة تحصل على أهلية قانونية كاملة، أياً كانت حالتها الاجتماعية، لها حرية التنقل والحركة والسفر خارج الحدود دون موافقة من الرجل؛ بل ولها حق التوثيق في المكاتبات العدلية. هذه القرارات الأخيرة التي تجاوزت أحلامنا، وصوّبت الخطأ الذي كان موجوداً، بأن حياة أفراد الأسرة أمر يخص الأسرة نفسها، لا الدولة، إلا فيما يمس السلم الاجتماعي والأمن.
هذه القرارات التي كتبت بماء الذهب في صفحة مهمة في تاريخ الدولة، هي علامة فارقة، والقيادة السياسية التي مكنت المرأة أخيراً وانتصرت لها، تعكس قوتها، وأنها وحدها صاحبة العين التي ترى المصلحة العامة. ولا ننسى أنه رغم ابتهاجنا بهذه التنظيمات الجديدة، فإنها تحمّل المرأة عبء قرارتها الشخصية، وتجعلها مسؤولة أمام الله ثم القانون والمجتمع، مثلها مثل كل نساء العالم.