حكم «البرود المهذب» العلاقة اللبنانية السعودية منذ وفاة المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز. ومرت هذه العلاقة مذّاك بمنحنيات اتسم بعضها بالحساسية المفرطة، والحدة السياسية والتعبيرية، ليعود ويطغى على ترجمة السياسة السعودية تجاه لبنان، خلال السنتين الماضيتين، البعد الاجتماعي والإنساني والثقافي، عبر حركة سفير المملكة لدى لبنان.
شاع في بيروت، حتى بات من باب المسلمات في الوسط السياسي والإعلامي، أن المملكة ولأسباب كثيرة، خاصة وعامة، وسياسية وغير سياسية، تعبت من «العبء اللبناني» وابتعدت عن تاريخ العلاقة اللبنانية السعودية التي بلغت أعلى مستوياتها في أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
غير أن إشارات ثلاثاً برزت في الأسابيع القليلة الماضية تشي بأن ثمة حرارة سياسية عادت تدب بين الرياض وبيروت. أولى هذه الإشارات مثلتها زيارة وفد مجلس الشورى السعودي إلى بيروت منتصف الشهر الفائت، والتي قُدمت على لسان الوفد السعودي بأنها فاتحة «زيارات أخرى»، وترجمة لحرص قيادة المملكة «على تنمية العلاقات بين البلدين على كافة المستويات».
وقد جرى التداول إعلامياً في احتمال زيارة أخرى على مستوى الوزارات ورجال الأعمال، تكرر الزيارة السعودية الناجحة والكبيرة إلى العراق في شهر أبريل (نيسان) الفائت، والتي تمثلت بزيارة وفد اقتصادي سعودي كبير برئاسة وزير التجارة والاستثمار ماجد القصبي، تألف من 100 شخصية، بينهم تسعة وزراء، بالإضافة إلى عشرات رجال الأعمال والخبراء الاقتصاديين، للمشاركة في أعمال الدورة الثانية لمجلس التنسيق السعودي العراقي.
الإشارة الثانية البالغة الأهمية، جاءت منذ نحو ثلاثة أسابيع، عبر استقبال المملكة قائد الجيش اللبناني جوزيف عون، وتسلّمه من نظيره السعودي رئيس هيئة الأركان العامة الفريق الركن فياض بن حامد الرويلي، وبتكليف من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الممتازة. ولا يخفى أن قائد الجيش اللبناني الجديد نسبياً، رسم خطاً جديداً داخل المؤسسة العسكرية على مستوى إدارة الجيش وصيانة قراره، وهو ما ظهر في إدارة معارك الجرود ضد «داعش»، والصراع المكتوم، ولكن القاسي، الذي دار على هوامشها مع ميليشيا «حزب الله» يومها. كما أنه صاحب مدرسة قيادية ألغت من الوعي اللبناني العام «استقلالية» بعض إدارات الجيش، لا سيما جهاز مخابرات الجيش الذي عاش لسنوات طويلة وكأنه جسم أصغر ملتصق بجسم أكبر هو الجيش. والأهم من ذلك، وهنا لا أحمل السعودية أي نيات خاصة في هذا الشأن، أن جوزيف عون قُدم في بعض الإعلام اللبناني الرصين كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، واستدرجت سمعته وحركته نزاعاً معلناً أو مبطناً مع المرشح الأوضح وزير الخارجية جبران باسيل، إلى حدود سعي الأخير لتغييره.
أما الإشارة الثالثة فتمثلت في الزيارة «النوعية» لرؤساء الحكومة السابقين: فؤاد السنيورة، ونجيب ميقاتي، وتمام سلام، إلى الرياض، للقاء قيادتها السياسية، في لحظة تبدو فيها رئاسة الحكومة في لبنان، وعموم توازنات النظام السياسي: «ضحية» منازعة سياسية بالغة القسوة، كان آخرها إقدام الوزير باسيل على تعطيل مجلس الوزراء، ثم التساهل بإيجاد مخرج ماء الوجه للرئيس سعد الحريري، عبر تسوية رفعه الجلسة التي دامت أقل من دقيقتين بحضور وزراء رئيس الجمهورية، وإكمالهم النصاب، وغياب وزراء باسيل.
ثلاث إشارات سياسية بامتياز بشأن علاقة لبنانية سعودية، محكومة بثلاث نظريات:
نظرية أولى تفسر الابتعاد السعودي السياسي من لبنان، بافتراض أن لبنان بقعة ساقطة عسكرياً بيد إيران عبر «حزب الله»، وأن المملكة تخوض صراعاً مباشراً مع إيران، ما يجعل لبنان تحصيل الحاصل أياً تكن النتيجة. فلو خسرت إيران يتحرر لبنان، ولو ربحت إيران فلبنان أساساً في جيبها.
أما النظرية الثانية فتفسر هذا الابتعاد بأنه أولاً استجابة لرغبة لبنانية في تحييد لبنان عن حرائق المنطقة من جهة، وثانياً بعدم رغبة السعودية في إضافة طبق متفجر إضافي على مائدة الصراع مع إيران و«الإخوان المسلمين» في أكثر من دولة وساحة وجبهة. والواقع أن التحييد، إن كان هو رهان أحد ما، فهو رهان فاشل عملياً؛ حيث إن التحييد لا ينطبق على ممارسات «حزب الله» الآخذة في القضم الممنهج لكل مساحات الممانعة ضده، سنياً ودرزياً ومسيحياً، وبحيث يفرض «حزب الله» النأي بالنفس على خصومه من غير التزام من طرفه، جاعلاً من لبنان مكتب خدمات العدوان على مصالح السعودية والإمارات، إعلاماً وسياسة وتدريباً... إلخ.
وأما النظرية الثالثة فتفيد بأن لا طائل من الاستثمار السياسي السعودي في لبنان، بسبب فشل حلفاء المملكة وعدم قدرتهم على مواجهة فعلية مع «حزب الله»، وأن عقوداً من الاستثمار السعودي كانت دون جدوى.
لا يختلف عاقل مع السعودية في أن بعضاً من خيبة أملها في مكانه، ولكن لا يجاريها حريص في أخذ هذا المنحى إلى حدود التشجيع على الابتعاد السياسي الكامل من المعادلة السياسية اللبنانية، وترك البلاد نهباً كاملاً لوكلاء إيران وحلفائهم.
الإشارات الثلاث السالفة الذكر ينبغي أن تكون مقدمة لمكاشفة لبنانية سعودية حول النظريات الثلاث المذكورة أعلاه، وإخراج العلاقات اللبنانية السعودية من أسرها. ليست كل هذه النظريات أوهاماً، وليست كلها حقائق ثابتة. التفريق بين الاثنين، والقرارات الشجاعة بصياغة رؤية لهذه العلاقات والمصالح، وفق شروط وخصوصيات وقدرات كل من لبنان والسعودية، أكثر من ضروري وملح لمصالح البلدين. للحديث صلات.