تحشرج صوت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، واغرورقت عيناها بالدموع، في خاتمة خطابها بالاستقالة من منصبها أمام الباب الشهير في 10 داوننغ ستريت في لندن، بعد أن اعتذرت عن فشلها في تحقيق مصلحة الوطن الذي «تحبه». كانت اللحظة درامية ولم يقدّرها كثيرون لأنها ببساطة فشلت فيما وعدت أن تأتي به وهو الخروج الآمن لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي كان يعني أن علاقات بريطانيا بأوروبا غير قابلة للفصم؛ ولكن ما هو قابل للفصم هو الخروج من الاتحاد الأوروبي. النتيجة كانت رغم كل محاولات قادة أوروبا لتقديم العون لمن قدمت نفسها باعتبارها خليفة مارغريت ثاتشر العظيمة؛ أنها فشلت أربع مرات في الحصول على موافقة مجلس العموم البريطاني على الصفقة التي جرى تعديلها وتحسينها طوال الوقت، ومع ذلك فقد كان في المجلس مَن يريدون الخروج من الاتحاد دون اتفاق على الإطلاق، ومَن يريدون أياً كانت النتائج إسقاط تيريزا ماي شخصياً، إما لأنها تنازلت كثيراً وإما لأنها لم تتنازل على الإطلاق. حصيلة المداولات التي جرت في مجلس العموم كانت الفشل الكامل لنظام يعد الأقدم ديمقراطياً على مستوى العالم، والأكثر حكمة وتقاليد ومؤسسية. وذات يوم قال وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، إن الديمقراطية هي أسوأ نظم الحكم، ولكن مع ذلك فإنه لا يوجد نظام آخر أفضل منها. في تجربة «بريكست» لم ترتقِ الديمقراطية إلى تحقيق الهدف من كل نظم الحكم وهو القدرة على اتخاذ القرار. الديمقراطية تؤمن بأن هناك اختلافات في الرأي، وبأن هناك تنوعاً في الآراء، ولكن الأمر في النهاية سوف يكون فيه أغلبية وأقلية تحسم الأمر بحيث تتجسد الإرادة العامة والحكمة الجماعية للشعب. وجهة النظر هذه تتجاهل تماماً الحالات التي عندها تتفق الأغلبية والأقلية على تجنب اتخاذ القرارات الصعبة، وما حدث في قرار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي أنه كان داخل الأحزاب البريطانية جميعاً انقسام بين مَن يريدون البقاء في الاتحاد، ومن يريدون الخروج منه، ومن يريدون الخروج باتفاق، ومن يريدون الخروج دون اتفاق على الإطلاق وبطريقة مهينة للأوروبيين كلما كان ذلك ممكناً. تيريزا ماي اعتبرها الكثيرون في بريطانيا من الفاشلين، ومع ذلك فإن السيدة حاولت لثلاث سنوات أن تحصل على أفضل الممكن لبريطانيا، أخذاً في الاعتبار المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المشتركة؛ وأكثر من ذلك أخذاً في الاعتبار أكثر من 48% من البريطانيين الذين كانوا يرفضون الخروج من الاتحاد، وبعضهم يشكلون أغلبية ساحقة في أقاليم قلقة من المملكة المتحدة مثل اسكوتلندا وشمال آيرلندا. لم تكن رئيسة الوزراء هي التي فشلت وإنما النظام البريطاني الذي فشل لأنه ربما لم يستوعب الانتقادات الموجّهة إلى النظام الديمقراطي بدءاً من التاريخ القديم حتى التاريخ الحديث. فلاسفة اليونان القدامى من أفلاطون إلى أرسطو انتقدوا الديمقراطية بشدة لأنهم وجدوا «أثينا» تقع في أسر بركليس الخطيب المفوّه الذي قادها إلى حرب مع «إسبرطة» فكانت هزيمتها؛ فجرت تفضيلاتهم ما بين الملك الفيلسوف، وحكم الأرستقراطية التي تعني حكم الأفضل علماً وخلقاً ونزاهةً وليس أصحاب الدماء الزرقاء، أو كما فعل أفلاطون عندما جعل «القوانين» وتغييرها عندما تتغير الظروف هي جوهر السياسة. وبعد انتهاء العصور الوسطي وعند مطلع العصور الحديثة جاء جون لوك بكتابيه عن «أصول الحكومة المدنية» و«رسالة في التفاهم الإنساني» لكي يجعل الديمقراطية نوعاً من «العقد الاجتماعي» بين الحاكم والمحكوم. ولعلّ للكتابين مع التقدم العلمي وفلاسفة «التنوير» دوراً مهماً في الثورات الأميركية والفرنسية لكي تمتزج الليبرالية مع الديمقراطية مع الرأسمالية في حزمة واحدة أخذت البشرية على مراحل حتى وصلت بها إلى «العولمة» التي شاهدناها خلال العقدين الماضيين. كانت شهادة العولمة أن النظام الديمقراطي هو الأكثر كفاءة في إدارة الدولة وتحقيق أهدافها، بقدرته على اتخاذ القرارات الأكثر حكمة. والحقيقة أن «العقد الاجتماعي» لم يستند فقط إلى أفكار جون لوك، فقد كان توماس هوبز أيضاً من فلاسفة هذا العقد الذي جعل الدولة «تنيناً» يقف على رأسه حاكم مطلق. نظرة أخرى على العقد نفسه جاءت مع جان جاك روسو لكي يعطي العقد ما سمّاها الإرادة العامة التي باتت تمثل الشعب الذي يعبّر عنه حزب شيوعي أو فاشي بشكل أو بآخر. ما حدث في «بريكست» أن الديمقراطية أفرزت أسوأ ما فيها الذي جسده بوريس جونسون - الوزير السابق في حكومة تيريزا ماي - الذي قام في مجلس العموم بالعمل على تدمير الاتفاق الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء. والحقيقة أن القصة منذ بدايتها كانت تجسيداً لما في النظام الديمقراطي من وهن عندما تكون القضايا ملتبسة وصعبة ومعقدة ويفشل السياسيون في وضعها داخل دائرة النخبة السياسية، وجرى تسليمها إلى حيث تنتصر «الشعبوية». رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون كان هو الذي استنكف عرض المسألة على مجلس العموم لكي يكون التداول فيها بين التيارات المختلفة بعيداً عن «الشارع السياسي» بحيث تُعطى الفرصة كاملة للدراسة وآراء الخبراء ولجان الاستماع؛ وما جرى كان عرض الأمر كله على الاستفتاء الذي أعطى كل الفرصة للديماغوجية والعنصرية والشعبوية لكي تؤتي فعلها وتلغي مواقف ما يقرب من نصف الشعب البريطاني لأن النصف الآخر حصل على بضعة أصوات زائدة. وكان ذلك موقفاً نهائياً، فلم تكن تيريزا ماي مخطئة عندما قاومت بشدة إجراء استفتاء آخر لأنها كانت مخلصة للمبدأ «الديمقراطي» الذي يرفض أن يكون الاستفتاء نوعاً من «الرياضة القومية»، فالشعوب لا تُختبر بصدد موضوع إلا مرة واحدة، وإلا اختلّ الأمر وبات من غير الممكن إدارة السياسة بالكفاءة اللازمة لإدارة مجتمع. ما سوف يأتي بعد ذلك اختبار آخر؛ فقوى الشعبوية والفاشية سنّت أسنانها من أجل الخروج من الاتحاد الأوروبي لأنها تريد القضاء على واحدة من أهم عمليات الهندسة السياسية التي عرفها التاريخ الأوروبي. والأرجح أن ذلك لن يكون عملية سهلة، فطابور المرشحين لخلافة تيريزا ماي طويل، وبوريس جونسون يجهّز نفسه لرئاسة حزب المحافظين. وحزب العمال الذي قاوم تيريزا ماي واتفاقها سوف يعد دوماً «ناعماً» تجاه أوروبا، وناعماً تجاه المهاجرين، وناعماً أمام الروس والصينيين، ومشجعاً للعولمة، وعازفاً عن العلاقات مع دونالد ترمب، وزعماء القومية البيضاء في العديد من الدول الأوروبية. أين سيكون موقف الشعب البريطاني من هذه الحملات؟ ربما يكون هو الموقف الأخير للديمقراطية في بريطانيا التي سقطت مرة في الاستفتاء الأول، ومرة أخرى عندما فشلت تيريزا ماي في تمرير اتفاق معتدل من أجل خروج ناعم يُبقي قدراً من العلاقات والوشائج البريطانية الأوروبية خصوصاً أن بريطانيا لا كانت في منطقة «اليورو» بعد أن احتفظت بالجنيه الإسترليني عملة لها، ولا كانت ضمن نظام «شينغن». ومع ذلك كان الهدف من الخروج ليس تغيير وضع وإنما تدمير فكرة!