#جاسيندا أردرن وخطاب أنتم نحن: درس في محاربة# التطرف

الخميس 21 مارس 2019 8:33 م
#جاسيندا أردرن وخطاب "أنتم نحن": درس في محاربة# التطرف

قيادة نسوية تغييرية تدافع عن العيش المشترك

جنوب العرب - همام طه

رئيسة وزراء نيوزيلندا تصرفت كزعيمة/أم لها القدرة على احتضان شعبها في المحنة وتهدئة مخاوفه، وليس اللعب عليها أو توظيفها سياسيا، وذلك باعتمادها سياسة ناضجة تتمتع بالكثير من روح المبادرة.

بينما وجدت نيوزيلندا نفسها الأسبوع الماضي تُقذَف من جنة هادئة إلى نار الإرهاب، ظهرت رئيسة وزراء البلاد جاسيندا أردرن كشخصية لتوحيد المجتمع إثر الهجوم الإرهابي، الذي نفذه مسلح أعلن تأييده لأيديولوجيا تفوّق البيض على مسجدين وأطلق النار ليقتل 50 شخصا. ظهور أردرن وهي تحتضن عائلات الضحايا لم يكن مجرد تصرّف عاطفي أو دعائي عابر، ولكنه جزء من سياسة التلاحم والتآزر، التي تعتمدها في أسلوبها القيادي القائم على الممازجة بين العاطفي والعقلاني، ولذلك حرصت على توجيه الكلام إلى شعبها من خلال منبر البرلمان لتطالبه بأن يتذكر أسماء ضحايا الهجوم بدلا من اسم منفّذه، وهي بذلك تقود البوصلة المجتمعية باتجاه المزيد من التعاطف والتكاتف.

أظهرت رئيسة الوزراء النيوزيلندية، جاسيندا أردرن، كفاءة سياسية وخطابية لافتة في إدارة الأزمة التي واجهتها بلادها عقب الاعتداء الدموي الذي استهدف مصلين مسلمين في مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش على يد شخص يميني متطرف يؤمن بتفوّق العرق الأبيض.

قدمت أردرن درسا في الدفاع عن قيم التعايش، لتحوّل الأزمة إلى فرصة للتقارب والتعايش والألم إلى أمل. وأدارت الأزمة الأمنية والاجتماعية بلمسات “امرأة” حديدية من نوع آخر. وفي مقابل تجارب الحكم “الأبوي” الشائعة في العالم والتي تُتهم بالمحافظة والتسلّط تقدم أردرن اليوم تجربة حكم “أمومي” تريد لها أن تتسم بقدر واضح من الاحتواء والاحتضان والانفتاح.

تصرفت أردرن كزعيمة/أم لها القدرة على احتضان شعبها في المحنة وتهدئة مخاوفه، وليس اللعب عليها أو توظيفها سياسيا، وذلك باعتمادها سياسة ناضجة تتمتع بالكثير من روح المبادرة والتلقائية التي تكشف عن وضوح ورسوخ فكرة العيش المشترك في وعيها وإيمانها بالتنوّع. واستطاعت أن تبلور استجابة سريعة لامتصاص الصدمة ومقاربة إنسانية وسياسية لتطويق ارتداداتها وتحويلها إلى فرصة لحماية التعايش.

تكشف هذه السياسة إدراكا بأن لا حل للمشاكل التي تواجه العيش المشترك إلا الالتزام بالعيش المشترك، وأن لا سبيل لمواجهة تحديات التنوّع الثقافي إلا المضي في صيانة واحترام وتطوير هذا التنوع انطلاقا من القاعدة الذهبية الراسخة في المجتمعات الديمقراطية والتي تقول إنه “لا علاج لمشاكل الديمقراطية إلا بالمزيد من الديمقراطية”.

مشروع أخلاقي

سياسات الحكمة والتعاطف هي الوسيلة الأكثر كفاءة لتقليص المساحة التي تتحوّل فيها الاختلافات الدينية والإثنية إلى خلافات أيديولوجية وسياسية. والسياسي الناجح هو الذي يحمل مشروعا أخلاقيا يهدف إلى ترويض التناقضات الداخلية في مجتمعه وليس استثمارها لخدمة مصالحه السياسية الحزبية أو الشخصية.

لذلك بدت الجرعة الأخلاقية العالية واضحة في خطاب جاسيندا أردرن. وبدت وكأنها تستثمر الحدث لإعادة نسج العلاقات بين المكونات الاجتماعية في بلدها بدقة وإحكام وحرص وإخلاص على أساس من التكاتف والتكافل والاندماج بما يجعله مؤهلا للصمود أمام أي شروخ أو هزات قد تنتج عن هذه الجريمة أو غيرها.

وكان ارتداء أردرن للحجاب وهي تواسي ذوي الضحايا من أبناء الجالية المسلمة خطوة بالغة الذكاء للتعبير عن التضامن وترجمة رمزية للعبارة البليغة التي حرصت على ترديدها بعد الهجوم في خطابها إلى مسلمي نيوزيلندا “أنتم نحن”، وهي عبارة عميقة ومكثّفة الدلالة في تعبيرها عن مفاهيم العيش المشترك والتماسك الاجتماعي والاندماج الحقيقي الذي يذيب الفوارق والحواجز بين الذات والآخر لصالح الانصهار في بوتقة إنسانية واحدة لا تصادر الخصوصيات ولا تنتهكها ولكنها تعلي من شأن المشترك الإنساني الجوهري الذي لا يمكن للهويات الفرعية أن تلغيه.

يلاحظ أيضا أن رئيسة وزراء نيوزيلندا استطاعت بخطابها أن تفرض قيمة التعاطف على كل الإجراءات الأمنية والقانونية والإدارية التي يتم بموجبها التعامل مع الأزمة الراهنة. وتجلى ذلك في احترام السلطات للطقوس الإسلامية في دفن الموتى، وكذلك استصدار وثائق الدخول لفائدة ذوي الضحايا ليحضروا إلى نيوزيلندا للمشاركة في دفنهم.

ويبدو واضحا أنها تسعى بأدائها السياسي إلى طمأنة المجتمع النيوزيلندي والتهدئة من روع الجالية المسلمة ووضع حاملي الأفكار اليمينية المتطرفة في عزلة شعورية وسياسية ومجتمعية بما يشكّل ردعا رمزيا ومعنويا لهم عن المضي في اعتناق هذه الأفكار المهددة للسلم الاجتماعي.

وهي عندما ترفض أن تتلفظ باسم مرتكب الجريمة وتطلق عليه أوصافا مثل الإرهابي والمجرم والمتطرف فإنها لا تريد التعدّي على اختصاص القضاء أو استباق قراراته ولا انتهاك حقوق المعتقل أو معاداته بصفة شخصية؛ لكنها كسياسية تستشعر المسؤولية في هذه اللحظات الحرجة وتريد أن تشكّل حالة من الرفض المجتمعي للتطرف خشية من تجرؤ متطرفين آخرين على ارتكاب جرائم مماثلة أو تأثّر أي شخص بأفكار اليمين المتطرف الهدامة. كما أنها بإعلانها مراجعة وتعديل قوانين حيازة السلاح في البلاد تريد إن تقول إن الأفكار المتطرفة لن تجد الفرصة أو الوسيلة لتتحوّل إلى أفعال دموية على الأرض.

تعلم أردرن أنها هي وأغلب أفراد شعبها ينتمون إلى ذات الإثنية التي ينتمي إليها منفّذ الهجوم، وهي العرق الأبيض الذي تنادي مجموعات يمينية متطرفة بأفضليّته وأحقيّته بالسيادة والهيمنة، لذلك أدركت أن إبداء أي شكل من أشكال التهاون في إدانة ورفض الجريمة سيكون بمثابة تواطؤ مع فعلته أو محاولة للتهوين من فظاعتها بما يشكّل نوعا من التسامح الضمني مع أفكار اليمين المتطرف وتقليلا من مأساوية ما حلّ بالمسلمين. لذلك ذهبت إلى المدى الأوسع والأكثر وضوحا وحسما وصراحة في شجب الجريمة وسارعت إلى عدة مبادرات لخلق شعور عام بالأمان لدى المسلمين خاصة وشعور بالثقة والارتياح واحترام الذات لدى عموم الشعب النيوزيلندي.

الأخ الأكبر

قدرة القائد السياسي على تعزيز احترام الذات والثقة لدى الأغلبية هو عامل أساسي في تشجيعها على احتضان الأقليات ولعب دور “الأخ الأكبر” الراعي والحاني والمتفهّم في التعامل معها. سعت أردرن من خلال الزخم السياسي الذي صنعته في مواجهة التطرف إلى صنع بيئة نفسية واجتماعية رافضة للتجرؤ على أرواح الناس أو التماسك الاجتماعي أو استخدام العنف للتعبير عن المعتقدات الأيديولوجية وتصفية الحسابات السياسية، وهي بذلك تحقن الدماء وتحمي المجتمع من الكراهية وتحمي المتطرفين من أنفسهم، وتقدّم تجربة ملهمة في القيادة السياسية على مستوى العالم المضطرم بالصراعات وحروب الهويات.

لذلك لم تتردد عن وصف الجريمة بأنها “إرهابية” فوضعت بذلك اليمين المتطرف في خانة واحدة مع التطرف الإسلامي وهي خطوة لها دلالة مهمة لكونها تصدر من سياسية غربية تنتمي إلى العالم المسيحي دون مكابرة ولا عناد ولا التفاف قد يشي بقبول ضمني بأفكار أو أفعال اليمين المتطرف، وهو درس مهم في القيادة عند اللحظات الحساسة التي تواجه المجتمعات التعددية.

الشجاعة الحقيقية هي في قدرة الشخص، السياسي وغيره، على إدانة الجرائم التي تصدر من أبناء الهوية التي ينتمي إليها وقدرته على تضميد جراح أبناء الهوية المقابلة، وبذلك فهو يحمي أبناء الهويتين معا ويحمي الهوية الوطنية المشتركة التي تجمعهما. وبدا واضحا أن سياسة الاحتضان والتضامن التي اعتمدتها رئيسة وزراء نيوزيلندا مع الجاليات المسلمة تهدف أيضا إلى محاصرة أي أفكار متطرفة قد تنشأ داخل هذه الجاليات امتثالا لتأويلات متطرفة للإسلام أو كردّ فعل انتقامي على جريمة المسجدين التي اقترفها اليمين المتطرف.

سعت أردرن إلى أن تخلق حالة من التمازج العاطفي والمشاركة الوجدانية بين الأغلبية والأقلية بحيث يرى كل من الطرفين نفسه في أفضل صورها من خلال الآخر، بمسارعتها إلى تقمّص الشخصية الإسلامية عبر ارتداء الحجاب وتحية المسلمين بعبارة “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته” في البرلمان، وإعلانها بثّ الأذان في التلفزيون الجمعة المقبلة، وتنويهها بالمسلم الذي استقبل القاتل عند دخوله المسجد بعبارة “مرحبا أخي”، واعتبار ذلك دليلا على انفتاح المسلمين، ودعوة الشعب النيوزيلندي إلى المزيد من التضامن والتعاطف مع الجالية المسلمة.

وحسنا فعل أحد المصلين الناجين من المجزرة وزوج إحدى ضحاياها عندما ردّ على تعاطف المجتمع النيوزيلندي مع المسلمين بخطاب مقابل مفعم بالغفران والتحرّر من الحقد تجاه المنفّذ، فقال إنه “يسامح القاتل ويصلي من أجله”. تغلّبت بذلك لغة التسامح والتآخي على لغة التعصب والعنف وباتت طريقة إدارة “أزمة التعايش” هذه في نيوزيلندا درسا بليغا لكل الشعوب التي تمر بمثل هذه التحديات الوجودية.

سياسة ضد الهجرة

كانت جاسيندا أردرن قد تعهّدت عند انتخابها بمنع زيادة مستوى الهجرة أكثر من 30 ألف شخص سنويا، لكنها مع ذلك دافعت عن المهاجرين المسلمين بعد الجريمة وقالت إن نيوزيلندا هي موطنهم؛ بمعنى أن موقفها الرافض لزيادة الهجرة يرجع فعلا لأسباب تنموية موضوعية تتعلق بالمحافظة على التوازن بين عدد السكان والرفاه المعيشي الشامل، ولا يتعلّق بأيديولوجيا كراهية الأجانب التي يروّج لها اليمين المتطرف.

وتجسدت قدرة أردرن على “التفكير المزدوج” في إقرارها بأنها تعلّمت قيمة خدمة الناس من انتمائها إلى الكنيسة ولكنها مع ذلك أعلنت انسحابها من الكنيسة عندما وجدت أن بعض تعاليمها تتناقض مع مبادئها الشخصية. بمعنى أن تحوّلها إلى اللادينية لم يمنعها من الاعتراف بما تعلّمته في حياتها الدينية.

ولم تكن النزعة الليبرالية التي أبدتها في التعامل مع أزمة الهجوم على المسجدين وجسّدها تحررها من الانحيازات الهوياتية والعنصرية وانفتاحها التام على المسلمين إلا انعكاسا لمنظومة من القيم التحررية والتقدمية التي تؤمن بها فهي تؤمن بالتسامح الديني والثقافي والجنسي والمساواة بين الرجل والمرأة وتدعم حقوق المثليين كما أبدت اهتماما ملحوظا بالقضايا الإنسانية والبيئية خلال مسيرتها السياسية.

ولا يفسّر سلوكها المنحاز إلى تماسك مجتمعها إلا بأنها كزعيمة طموحة تجد نجاحها السياسي والوظيفي في تجاوز الأزمة والعبور بالمجتمع إلى برّ الأمان عبر إظهار كل التعاطف مع الجالية المسلمة ودون قيد أو شرط أو محاباة للمتطرفين وتشجيع المجتمع النيوزيلندي على المبادرة الإيجابية وتحويل أزمة التعايش إلى فرص لإنعاش التعايش.

وهذا الوعي السياسي ليس وليد الصدفة، فقد استطاعت أن تبني خبرة جيدة من خلال تجربة سياسية ومهنية ثرية أتاحها لها انخراطها المبكر في العمل العام عبر نشاطها الحزبي الذي توّج بتوليها زعامة حزب العمال النيوزيلندي، وكذلك العمل بعد تخرجها من الجامعة عام 2001 كمساعدة مع رئيسي وزراء؛ هما رئيسة الوزراء السابقة في بلدها هيلين كلارك ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ثم عضوة في البرلمان النيوزيلندي بمعنى أنها طوّرت مفهومها للسياسة من خلال الاحتكاك المباشر بمراكز صنع القرار ومن خلال مراقبة نجاحات وإخفاقات زعماء آخرين عن كثب.

كما عززت تجربتها السياسية بقرابة عشر سنوات قضتها رئيسة للاتحاد الدولي الاشتراكي للشباب والذي جعلها في تماس مباشر مع شباب العالم من مختلف الشعوب والثقافات ولاسيّما الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وهذا يجعلها قادرة على فهم العقل المسلم وبالتالي يفسّر نجاحها في نيل ثقة مسلمي بلادها.

جاسيندا أردرن استطاعت أن تبني خبرة جيدة من خلال تجربة سياسية ومهنية ثرية أتاحها لها انخراطها المبكر في العمل العام عبر نشاطها الحزبي

ولذلك لم يكن مستغربا ما أبدته من براعة في محاصرة تداعيات وآثار هجوم المسجدين على تماسك المجتمع النيوزيلندي فجعلت من تلك اللحظة منطلقا لتكريس التضامن الاجتماعي وإلهام المجتمع النيوزيلندي ليتكاتف ويتكافل ليس لمواجهة الأزمة الراهنة فحسب وإنما لتطوير قدرته على الصمود في مواجهة أي أزمات مستقبلية على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبذلك استطاعت أن تخلق من التحدي الذي واجه نيوزيلندا بعد الأزمة أفقا لتعزيز السلم الأهلي والتناغم الثقافي.

استثمار ولكن…


لا شك أن جاسيندا أردرن ليست لديها أجندتها الخاصة من وراء تعاملها مع هذه الأزمة فهي أيضا تريد استثمار الأزمة لصالح مستقبلها السياسي. لكن الفرق بينها وبين الزعماء الشعبويين أنها اختارت أن تكون مصالحها هي مصالح شعبها وأن تكون أجندتها السياسية هي أجندة مجتمعها وأن تتبنى هي مشاكل المجتمع الحقيقية لا أن تفرض أجندتها عليه أو تجعله يخوض معاركها المفتعلة وينشغل بصراعاتها الوهمية كما يفعل الزعماء الشعبويون.

إن أداء أردرن السياسي هو نموذج لمفهوم “القيادة التغييرية”، والقائد التغييري أو التحويلي هو القائد القادر على تغيير الواقع وليس الاستسلام له وتحويل الأزمات إلى فرص مثمرة والكراهية إلى تسامح والتخلف إلى تنمية وذلك عبر خلق أفق معنوي ورؤيوي وأخلاقي يشترك فيه الجميع ويعمل من أجله الجميع.



التعليقات

ملفات ساخنة

الخميس 21 مارس 2019 8:33 م

 أوقفت فرقة أمنية مختصة عددا من القياديين في جبهة الإنقاذ الإسلامية المنحلة، وذلك في أعقاب بيان منسوب لما يعرف بمجلس إطارات الجبهة الإسلامية للإن...

الخميس 21 مارس 2019 8:33 م

برز ملف فاغنر في ليبيا مؤخرا بشكل بارز عقب اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، والمخاوف من انتقالها إلى الجنوب الليبي. ومع مقتل زعيم فاغنر يفغيني بري...

الخميس 21 مارس 2019 8:33 م

تسعى الصين إلى توسيع نفوذها الأمني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، متخفية تحت غطاء الشركات الأمنية الصينية الموجهة لحماية رعايا بكين في المنطقة، مستفيد...

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر