كان تعيين السفير أحمد قطان وزيرا للشؤون الأفريقية في المملكة العربية السعودية إشارة إلى زيادة الاهتمام بالقارة الأفريقية، وهو ما ظهر في الدور الدبلوماسي الذي تلعبه السعودية في إقامة السلام الإثيوبي الإريتري وفي التعامل مع قضايا القرن الأفريقي. ولم تكن المملكة وحدها في هذا الاهتمام فقد قامت الإمارات بكثير من النشاط السياسي والاقتصادي في منطقة القرن الأفريقي، كما كانت الكويت قوة استثمار وإغاثة في القارة منذ وقت طويل. ومن الطبيعي أن مصر تاريخيا اعتبرت أفريقيا واحدة من الدوائر الرئيسية في سياستها الخارجية، بالإضافة إلى الدائرتين العربية والإسلامية؛ ولكن هذا الاهتمام تقلص في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك، فإن العلاقات المصرية الأفريقية تقلصت إلى حد كبير حتى تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئاسة المصرية، حيث إن قدرا كبيرا من الحيوية دخل إلى العلاقات المصرية الأفريقية. وفي الحقيقة فإن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية جعل من البحر الأحمر، ومضيق باب المندب في جنوبه وقناة السويس في شماله، جسرا مهما للعلاقات العربية الأفريقية عامة استراتيجيا واقتصاديا مما جعل السعودية تضع له إطارا سياسيا ودبلوماسيا. ومن المعروف أن مصر سوف تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي خلال هذا العام وهو ما يعطي فرصة واسعة لدعم العلاقات العربية الأفريقية.
وفي الحقيقة فإن العلاقات العربية الأفريقية تمحورت تاريخيا حول التحرر من الاستعمار ومناوأة النفوذ الإسرائيلي في القارة الأفريقية. وفي مطلع الستينات من القرن الماضي حدث في القاهرة عملية تاريخية لاستعادة أفريقيا لذاتها واستقلالها منذ بدأت الدول الأوروبية تمارس استعمارها للدول الأفريقية، فتنزح ثرواتها تارة، وتختطف ثروتها البشرية بالعبودية تارة أخرى، وتعيد تشكيل كياناتها السياسية، ليس وفقا للهوية والروابط المجتمعية، وإنما وفق القسمة التي حددتها الاتفاقيات بين الدول في القارة الأوروبية.
مصر، وغالبية العالم العربي، في هذه المعادلة غير المشروعة كانت تخرج من عباءة الاحتلال الأجنبي لكي تستعيد أصولها الأفريقية والعربية التي لا يمكن إغفالها بتأييد ودعم زعامات التحرر في الدول الأفريقية المختلفة الذين اختاروا القاهرة ملتقى ومنطلقا للنضال، والمشاركة معها في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية التي باتت عبر الزمن «الاتحاد الأفريقي». استقلت الدول الأفريقية في النهاية، وأصبح صوت جماعتها مسموعا في المنظمات الدولية، ومع الدول الآسيوية، ودول أميركا الجنوبية، وكل ما اصطلح على تسميتها «الجنوب» لتشكل مصالح مشتركة في عالم كان يعاني من الحرب الباردة، والانقسام بين الآيديولوجيات الاشتراكية والرأسمالية.
ولم تكن مسيرة الاستقلال أقل صعوبة من مرحلة النضال من أجله، ورغم كفاح مضن من أجل التنمية والتقدم فإن القارة الأفريقية ظلت الأقل حظا بين دول العالم نتيجة الميراث الاستعماري من ناحية، وغياب التجربة لدى الدولة الأفريقية من ناحية أخرى، والانقسامات الإثنية من ناحية ثالثة. وكانت العقود الأخيرة من القرن العشرين غير رحيمة بالقارة الأفريقية حينما احتدت النزاعات الداخلية واختلطت بها الانقسامات العرقية، والمؤامرات الدولية، وانتشرت فيها عمليات «التطهير العرقي» جنبا إلى جنب مع الأوبئة مثل «الإيدز» و«الإيبولا». وهكذا احتلت الدول الأفريقية المكانة الدنيا في معظم المؤشرات التنموية الكلية في العالم، وبدا العالم على استعداد لتجاهل الأحوال الصعبة لشعوب أفريقيا. ولكن بداية القرن الحادي والعشرين شهدت بداية جديدة للقارة، فقد كانت الدول المعرضة للتفرقة العنصرية قد تخلصت من «الأبارتهايد»، وحكمت الأغلبية الأفريقية، وتدريجيا تراجعت الحروب الأهلية، وجرت كثير من التسويات السياسية التي جعلت القارة تستعيد بعضا من عافيتها، وبات ممكنا حصار الأوبئة ومنع أحوال المجاعة من الاستفحال.
الآن وأفريقيا تعيش مرحلة من نقاهة ما بعد المحن التاريخية والمعاصرة، فإن القرن الحادي والعشرين يفرض تحدياته على القارة التي تأخرت كثيرا عن بقية دول العالم. التحدي الأول ينبع من أن القارة تأخرت عن الثورات الصناعية بسبب الاستعمار في الثورة الأولى، وبسبب أعباء التحرر والاستقلال في الثورة الثانية. الآن فإن أفريقيا تعيش مع بقية العالم الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة، كما تترقب الثورة الرابعة القادمة على الأبواب والقائمة على اندماج ثورتين: تكنولوجيا المعلومات أو InfoTech والتكنولوجيا الحيوية Biotech. إن أفريقيا لا تملك حفاظا على شعوبها واستقلالها إلا أن تلحق بالعالم هذه المرة دون تأخير أو تراجع أو انشغال بالنظر إلى الماضي وليس التطلع إلى المستقبل. التحدي الثاني، والذي يرتبط بالتحدي الأول، هو الخاص بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تتلاءم مع القرن الحادي والعشرين؛ والحقيقة هي أن أفريقيا عامرة بالموارد الكثيرة، وخلال العقدين الماضيين فإنها باتت غنية بالتجارب الناجحة التي وضعت بلدانا أفريقية في ساحة التنافس الدولي.
إن التعاون الأفريقي الإقليمي في مجالات الطاقة والمياه والسياحة والصحة والتعليم وغيرها من المجالات يمكنها أن تعزز من القدرات التنافسية للدول الأفريقية. التحدي الثالث أن العالم، والنظام العالمي كله قد تغيرا عما كانا عليه في القرن العشرين، فما عاد العالم يحكمه قطبان يتنافسان في حرب باردة، وما عاد العالمي تحكمه «عولمة» تقودها دولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية؛ وإنما هناك قوى متعددة يوجد بينها مساحات للتعاون والوفاق والمنافسة حتى ولو كانت هناك أثقال خاصة للولايات المتحدة وروسيا والصين. والثابت أن هذه القوى الثلاث، مع قوى أخرى مثل أوروبا واليابان والدول البازغة في آسيا وأميركا الجنوبية تتنافس مع أفريقيا، وبات على الدول الأفريقية أن توظف هذا التنافس لصالح أفريقيا والإنسانية جمعاء. التحدي الرابع أنه حتى تستطيع أفريقيا أن تواجه تحديات عصرها، فلا بد لها من تصفية المنازعات والصراعات التي جذبتها إلى الخلف في عقود سابقة؛ ولعل الاتحاد الأفريقي يستطيع المساهمة في حلها من خلال آليات حل المنازعات، والتنمية المشتركة للموارد والإمكانيات.
إن العالم العربي بدوله الموجودة في الشمال الأفريقي، والبحر الأحمر الذي يربط بين دول آسيا العربية وأفريقيا شريك أساسي في مواجهة هذه التحديات من موقعها التاريخي، والجغرافي، على البوابة في الشمال الشرقي للقارة بذراع ممتدة إلى آسيا من خلال سيناء، وذراع أخرى ممتدة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا. وسواء كان العرب جزءا أساسيا في حركة التحرر الوطني الأفريقية، أو كانوا الآن جزءا من عمليات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي؛ فإنهم الآن يسعون إلى الشراكة الكاملة في مواجهة التحديات المشار إليها. ولعل ذلك سيكون ممكنا إذا ما كان العالم العربي أكثر استعدادا للتعامل مع أفريقيا من خلال المعرفة أولا، والدراسة ثانيا، والمتابعة ثالثا لكل ما يجري في القارة. ورغم وجود عدد من المؤسسات التعليمية المهتمة بأفريقيا، مثل معهد الدراسات الأفريقية في القاهرة، فإنه لا يوجد مراكز بحثية عربية ينصب اهتمامها على القارة الأفريقية. ولعل ذلك يكون هو المهمة القادمة سواء تم ذلك في إطار الجامعة العربية أو التعاون المصري السعودي، أو في إطار التحالف الرباعي، أو تجمع البحر الأحمر أو كل هذه الأطر المختلفة؛ فالمهام كثيرة وملحة.