دَعا تحالًف أحزاب المُعارضة والمُستقلين في السودان إلى احتجاجاتٍ غاضبةٍ في جَميع المُدن السودانيّة يوم الجمعة للمُطالبة بمُحارَبة الفَساد، وإنْقاذ الاقتِصاد المُنهار، وتَخفيف الضُّغوط المعيشيّة على المُواطنين بسَبب الغَلاء وارتِفاع الأسعار، وأخيرًا المُطالبة بتَنحِّي الرئيس عمر حسن البشير الذي يُحَمِّله المُتظاهِرين المَسؤوليّة عَن كُل جوانِب الأزَمَة التي تعيشها البِلاد مُنذ سَنوات.
مُحاولات الرئيس البشير لامتِصاص هذه الغَضبَة الشعبيّة فَشِلت حتّى الآن فيما يبْدو في تَهدِئة الشارع السودانيّ رغم أنّه لجأ إلى أُسلوب العَصا والجزيرة، العَصا، أيّ استِخدام القبضة الحديديّة وإطلاق النّار على المُتظاهرين حتّى الآن، والجَزرة، عندما أطلق العَديد مِن الوعود لحَل الأزمات، وزِيادة الرواتب للعامِلين في الدولة وتَحسين الخَدمات.
في خِطابه الذي ألقاه اليوم الخميس بمُناسبة ذِكرى استِقلال السودان، تحدَّث الرئيس السودانيّ عَن “مُؤامرة خارجيّة”، وقال إنّ السودان كان على رأس قائِمة من 7 دول عربيّة يتم السَّعي لتدميرها هي مِصر وسورية وتونس والعِراق وليبيا واليمن، وحَمّل الحِصار الاقتصاديّ، ووجود السودان على قائِمة الإرهاب المسؤوليّة عن انفجار الشارع السوداني، ولكنّه لم يَعترِف مُطلقًا بفَشلِه وحُكوماته على مَدى ثلاثين عامًا من إدارة البِلاد بشَكلٍ جيّد، والاستِعانة بالكَفاءات في هذا الصَّدد، وما أكثر الكَفاءات السودانيّة في شتّى المَجالات، وتَعزيز الحَياة الديمقراطيّة في البِلاد.
***
لا نَعتقِد أنّ الرئيس البشير كانَ مُصيبًا في حَديثه حول ثلاثَة أُمور أساسيّة على الأقَل:
الأوّل: وضع نفسه في القائِمة نفسها مع مِصر والعِراق وسورية واليمن التي تسعَى المُؤامرة الغربيّة إلى تَدميرِها.
الثّاني: اتّهام المُتظاهرين أو بعضهم، بتَلقّي التعليمات مِن السِّفارات الأجنبيّة، وقال بالحَرف الواحد “لن نلعَب بأمن البَلاد مَع أُناس تُعطيهم التَّعليمات مُخابَرات وسِفارات أجنبيّة”.
الثّالث: أنّ المُظاهرات السودانيّة سلميّة، وغير مُسلَّحة، ولم يتم تأسيس تحالف مِن 65 دولة لدعمها، مِثلما حدث في “ثورات” سورية وليبيا، أو غزو عَسكري مِثلما حدث في اليمن والعِراق، فالرئيس ترامب غير مستعد أن يُنْفِق 70 مِليار دولار لدَعم “ثورة” السودان مِثلَما اعتَرف بدَعم “ثورة” سورية.
لو كانَ الرئيس البشير كال مِثل هذه الاتِّهامات، وأدلَى بمِثل هذه الأقوال، قبل أن ينقلب على سِياساتِه وحُلفائه في مِحور المُقاومة، ونحن نتحدَّث هُنا عَن إيران وسورية والعِراق واليمن، ويتَّجِه إلى الولايات المتحدة وحُلفائها في المِنطَقة العربيّة، ويُرسِل قوّاته للحَرب في اليمن، لاتَّفقنا معه، ووقَفنا في خندقه، لأنّ السودان عارَضت غزو العراق وتدميره، مِثلَما وقَفت ضِد حَرب الانفِصال في اليمن عام 1994، ودعَمَت فصائل المُقاومة الفِلسطينيّة، والإسلاميّة منها تحديدًا بالمال والسِّلاح، وانتَصرت لحُروب “حزب الله”، سَواء حرب تحرير لبنان عام 2000 وما قبلها، أو العُدوان الإسرائيليّ في تموز (يوليو) عام 2006، وتَعرَّض للقصف أمريكيًّا وإسرائيليًّا وجَرى وضعه على قائمة الإرهاب، ولكن أن يقول الرئيس البشير ما قاله بعد أن “غيّر جلده” وقَطع العلاقات مع إيران بحُجَّة نشر التشيّع في السودان، ووقف إلى جانب الفَصائِل المُسلَّحة في الحَرب السوريّة، وانتَصر إلى الحِلف السعوديّ الإماراتيّ في الحَرب اليمنيّة، وسَمَح للطائرات الإسرائيليّة المَدنيّة باستخدام الأجواء السودانيّة في رَحلاتِها الأفريقيّة، فإنّه مِن حقّنا أن نقول له أنّه مِن الصَّعب علينا، والكَثير غيرنا، القُبول بطَرحِه وتبريراته في هذا المِضمار.
كيف يتعرّض السودان لمُؤامرة خارجيّة، وحُكم الرئيس البشير يجمع بين أصدقاء أمريكا وأعدائها في الوقت نفسه، فهو يَحظى بدَعم المحور التركيّ القطريّ، ومحطّة “الجزيرة”، ذِراعه الإعلاميّ الضارب، وحركة “الإخوان المسلمين” في العالم بأسْره، ومن الناحية الثانية يُقاتِل في الخندق السعوديّ الإماراتيّ المُضاد في اليمن، ويُرسِل أكثَر مِن خمسة آلاف مِن خيرة قوّاته الخاصّة مُتجاهِلًا مَشاعِر ملايين السودانيين الرافضين لهَذهِ المُشاركة، ولأوّل مرّة يجمَع بسِياساتِه بين مَحطّتي “الجزيرة” و”العربيّة” خَلف مَواقِفه، وهو إنْجازٌ “إعجازيٌّ” يُعتَبر مِن عجائِب الدنيا السَّبع.
الرئيس البشير ذهب مِن النَّقيض إلى النَّقيض، وجمع الصيف والشتاء تحت خيمة سِياساته ضِمن شِعار مُحاولة إيجاد حُلول لأزَمات السودان الاقتصاديّة والماليّة، وإخراجِها من قائمة الإرهاب الأمريكيّة بمُساعَدة أصدقائِه السعوديين والإماراتيين الجُدد، ولكِن جميع مُحاولاته هذه باءَت بالفَشَل.
جاره المِصريّ الشماليّ استَطاع الحُصول على 50 مليار دولار مِن الدول الخليجيّة في غُضون ثلاثة أعوام، ودون أن يُرسِل جنديًّا واحِدًا إلى اليمن، أو يُطالب بتغيير النظام في سورية، أو يقطع علاقاته بالكامِل مع إيران، وحُلفائها في العِراق والمِنطَقة، ولهذا أوضاعه الاقتصاديٍة تتحسَّن ولو ببطئ، بينَما أحوال السودان الذي قدَّم الكثير مِن “التَّنازلات” تَزْداد تَدَهْورًا.
مَعرَكة الرئيس البشير مِن أجْل البَقاء تَبْدو صَعبَةً ومُتعثّرة في الوقت نفسه، فاجتِهاداته التي اتٍبعها على مَدى ثلاثين عامًا مِن الحُكم لم تنجح في تَحقيق طُموحات الشعب السودانيّ المَشروعة في الاستِقرار والحَد الأدنى مِن الانتِعاش الاقتصاديّ، ولا نَعتقِد أنّ أيّ وعود بالإصلاح ومُحارَبة الفساد، وزِيادَة رواتِب العاملين في الدولة التي تَعهَّد بِها في خِطابِه الأخير ستُعطِي ثِمارَها، فقد اتَّسَع الخَرق على الرَّاقِع.
***
ننْصَح الرئيس البشير بالسَّير على خُطَى السيدة تيريزا ماي، رئيس وزراء بريطانيا، التي صمَدت في وجْه كًل الضُّغوط مِن قِبَل حزبها الحاكِم، وهِي النَّصيحة التي أنقَذتها مِن الهَزيمة عِندما جَرى طَرح الثِّقة في قِيادَتها لحِزبها، وتتلَخَّص في تَعهُّدها بعَدم خوض الانتِخابات البرلمانيّة المُقبِلة على رأسِه، أي حِزبها، فأنْقَذَت ماء وجهها وامتَصَّت غَضَب الكَثيرين، ولوْ إلى حِين.
فهَل يفْعَل الرئيس البشير الشَّيء نفسه ويَعِد حزبه، والشعب السوداني بأنّه لن يتَرشَّح في الانتِخابات الرئاسيّة المُقبِلة، ويتْرُك السَّاحة للشَّباب مِن داخِل حزبه لقِيادَة البِلاد نحو مُستَقبل قد يَكون أفْضَل، بعد أنْ استنَفَذ كُل الحِيَل المَوجودة في جُعبَتِه على مَدى 30 عامًا؟
نَتَمنَّى أنْ يعمَل بهَذهِ الصِّيغة النَّصيحة، والسودان حافِلٌ بالتَّجارِب المُماثِلة النَّاصِعَة (سوار الذهب)، ولا نُريد للبشير مَصير صديقه روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي، ويقْضِي بقيّة حياته في قَريةٍ على ضِفاف النِّيل، يسْتَنْشِق الهَواء العَليل، ويَأكُل مِن خَيرات السودان الطَّازَجَة، العُضويّة، الخالَية مَن أيّ جينات صناعيّة، مِثْلَما نَتَمنَّى أنْ يَحترَم الشعب السودانيّ خِياره هذا، إذا ما اختارَه فِعْلًا، ويَمْنَحه حَصانةً مِن أيِّ مُلاحقاتٍ قَضائيّةٍ حَقْنًا للدِّماء، وحِفاظًا على السودان ووحدَتَيْه التُّرابيّة والدِّيمغرافيّة.