جزء كبير من أميركا أدار ظهره لأوروبا
منذ أن وصل إلى البيت الأبيض، قلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب السياسة الخارجية الأميركية، والدولية، رأسا على عقب، وفتح ثغرات كبيرة في ملامح النظام العالمي. وترافق الموقف الأميركي مع تغيير آخر، هو صعود روسيا كقوة دولية من جديد، بالإضافة إلى تقدم الصين، مقابل تراجع القوى الأوروبية التقليدية.
وعكست لهجة الرئيس الأميركي، منذ صعوده للبيت الأبيض في يناير 2017، انتقاصا من دول أوروبية يقول إنها لم تدفع ثمن حمايتها من قبل الولايات المتحدة، وأنها تنتهج سياسة تجارية تشكل “تهديدا للأمن القومي الأميركي”.
لكن، وفق الكاتب في صحيفة الغارديان تيموتي غارتون آش ليس ترامب وحده الذي أدار ظهره لأوروبا، بل جزء كبير من أميركا لم يعد متحمسا لأوروبا وللحلف الأطلسي، مشيرا إلى أن الخلافات بين أوروبا والولايات المتحدة سابقة لفترة ترامب، ولها أسباب أعمق من ترامب، وستبقى بعده، لكن ما حدث هو أن شخصية الرئيس الأميركي وأسلوبه الشعبوي أزاحا ستارا كان يحجب رؤية هذه الحقيقة كاملة.
وقال إن الأميركيين أصبحوا لا يعيرون السياسة الخارجية اهتماما؛ إذ أصبح تركيز أغلب الأميركيين اليوم منصبا على تحسين ظروفهم بدل الاهتمام ببناء مدرسة في العراق أو أفغانستان، فأميركا أولا ليس شعار ترامب وحده وإنما أصبح لسان حال عامة الناس.
وعبر ترامب عن توجه جديد حين أشار، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، إلى أنه ناشط في جبهة شي-بوتين-أوربان السيادية، وبالتالي قدم نفسه في صورة “ذلك القومي الذي يستحيل أن يكون عالميا والعدو اللدود للنظام الليبرالي”، وفق غارتون آش.
ويرى غارتون آش أنه حتى وإن غادر ترامب المشهد في يناير 2021، فإن الولايات المتحدة وائتلافاتها الدولية، ومنها الأوروبية، لن تعود إلى حالتها السابقة مثلما حدث بعد فترة فضيحة واترغيت وحرب الفيتنام فهذا الزمن مختلف لأسباب تكمن داخل الولايات المتحدة وخارجها.
خلال السنوات الأربع من ولاية ترامب سيكون العالم من حول الولايات المتحدة قد تغير، لكن كذلك الشأن بالنسبة إلى الولايات المتحدة نفسها. على مستوى أوروبا سيكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأثير واضحا، فمثلما جادل مؤخرا المحلل الأميركي في السياسة الخارجية والتر راسل ميد، سيزيد الطلاق المرير بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في تقليص الالتزام الأميركي تجاه أوروبا. وعلى الجهة الأخرى من العالم تقوم الصين بتوسيع نفوذها بشكل ثابت في كل قارة.
وخلال زيارة إلى الولايات المتحدة مؤخرا، رصد غارتون آش تقلصا ملحوظا تجاه النزعة الأطلسية لدى الأميركي. ونقل عن رئيس مجموعة تفكير مبرمجة لتكون ذات نزعة أطلسية في واشنطن أن “الأمر يشبه دخول كنيسة لتجد نصف المقاعد فارغة”.
ويستحضر غارتون آش الجنرال جون برشينغ وهجوم موز-أرغون الذي ساعد قبل 100 عام بالضبط (في سبتمبر 1918) على كسر ظهر صمود الجيش الألماني الإمبراطوري وأدى مباشرة إلى هدنة الحادي عشر من نوفمبر.
كانت تلك المشاركة الأميركية في الحرب العالمية الأولى أول لحظة مميزة للغرب الجيوسياسي العابر للأطلسي. لكن الولايات المتحدة بعد ذلك انسحبت لأكثر من عقدين بينما استسلمت الديمقراطيات الأوروبية للفاشية والشيوعية.
وفقط في سنة 1941 مكن الهجوم الياباني على الأسطول الأميركي في المحيط الهادي في بيرل هاربر الرئيس فرانكلين د. روزفلت من إقحام بلده في الحرب العالمية الثانية.
لكن في سنة 1945 كان الحافز الوطني الأول للولايات المتحدة التقوقع على النفس مرة أخرى. ويقول توماس رايت من معهد بروكنغيز أن السفير الأميركي للاتحاد السوفييتي أفرال هاريمان أن الأميركيين “أرادوا تسوية كل خلافاتنا مع روسيا ثم الذهاب إلى السينما وشرب الكوكا”. واستوجب الأمر كل العزم من الرئيس هاري ترومان وكل فصاحة وينستون تشيرشل في خطابه الشهير فولتن، وكل وحشية جوزيف ستالين لإرجاع الولايات المتحدة.
كانت عقود الحرب الباردة إلى نهاية الاتحاد السوفييتي استثنائية حيث أدى الشعور الطاغي بامتلاك عدو مشترك رأس حربته في قلب أوروبا إلى ربط أوروبا الغربية بالولايات المتحدة كفاعل جيوسياسي واحد. لكن، اليوم يبتعد التجمع الأميركي عن الالتزامات الدولية والتحالفات الملزمة من أجل معالجة مشاغله المحلية الملحة الخاصة به.
ويخلص غارتون آش إلى أن “أميركا أولا” ليس شعارا خاصا بترامب، بل هو مزاج وطني يجب حتى على الرئيس الأكثر عالمية أن يتأقلم معه. في المقابل، يؤكد على أن الغرب الأطلسي ما زال بدنا قويا مفتول العضلات لكن بعقل تائه وقلب ضعيف وروح مقسمة.