أي محاولات من طرف المسؤولين الجزائريين لطرح التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، في ظل مواجهة دولية لهذا المرض، خارج ظرفيها الزماني والمكاني تعد نوعا من الهروب المقصود من المشكلات المطروحة خاصة في المجال السياسي.
تحدث وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري محمد عيسى على هامش زيارة عمل وتفقد قام بها إلى ولاية قسنطينة (الشرق الجزائري)، الاثنين الماضي 16 أبريل الجاري، بأن “التجربة الجزائرية في مكافحة التطرف الديني والحركات الطائفية ستكون موضوع لقاء بالجزائر في أبريل الجاري بين أئمة جزائريين وآخرين أميركيين، وأن وفد الأئمة الأميركيين سيتوجه في هذا الإطار إلى عديد ولايات البلاد من بينها قسنطينة للإطلاع على التجربة الجزائرية في مجال مكافحة التطرف الديني والحركات الطائفية”.
ومع أن عملية مكافحة الإرهاب في الجزائر، كانت، ولا تزال، من مهام الجيش والمؤسسة الأمنية منذ العشرية الدموية، إلا أن الكثير من المسؤولين الجزائريين في مختلف المواقع، يجنون اليوم ثمار الانتصار على الإرهاب، بل إن بعض الوزراء حين تسألهم عن حصيلة أعمال وزاراتهم، يحدثونك عن العشرية السوداء، وكيفية تمكن الجزائر من القضاء على الإرهاب ضمن خطاب استهلاكي مكرر لم يعد مستساغا محليا، وهو أمر، رغم القبول به بدرجة نسبية، يتطلب قراءة في الموقف الجزائري الراهن الخاص بتصدير مكافحة الإرهاب.
عمليا، يتخوف كثير من عناصر النخبة الجزائرية أن يتحول الحماس والزهو بما تحقق من انتصار على الجماعات الإرهابية في الجزائر لدى المسؤولين إلى نوع من الوهم لجهة الاعتقاد بإمكانية نقل التجربة، لأسباب كثيرة، نذكر منها ثلاثا على النحو الآتي:
أولا، أن للإرهاب أسبابه الداخلية وهو ابن بيئته أي أنه يحمل خصوصية مجتمعه، مع أنه ظاهرة عالمية، ولهذا تختلف طرق المعـالجة من بيئة إلى أخـرى، وإذا سلّمنا بأن هناك دولـة ما قـادرة على تصدير أسلوبها في مقاومة الإرهاب، فهذا يعني أنها أيضا بيئة منتجة للإرهاب، وهنا نصبح تحت وطأة الاعتراف باتهام الغرب لنا، ولكل المجتمعات المتخلفة في أفريقيا وآسيا، خاصة تلك المنفرة لشعوبها، والتي يهرب الناس بالآلاف عبر قوارب الموت فيما أصبح يعرف بـ“الـهجرة غير الشرعية”، مع أن الغرب نفسه طـرف أساسي في ظهور الإرهاب عندنا وعنده، بدءا من الميراث الاستعماري القديم، مرورا بدعم الأنظمة الدكتاتورية التي خلفته في المنطقة، وليس انتهاء بتناقضه مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، حين يتعلق الأمر بالجاليات المقيمة عنده.
ثانيا؛ الانتصار على الإرهاب في الجزائر أو في غيرها من الدول، مهما كانت درجة نجاحه، لا يعتبر نهائيا، لأنه مرتبط بالعنف، الذي هو حال من الصراع الدائمة بين البشر لا تنطبق عليها شروط النجاحات في المجالات الأخرى، مثل التعليم، حيث تسْتَقي الدول من بعضها بعضا، مع اختلاف منظومة القيم بين المجتمعات، وليس أيضا مثل المشاريع الاقتصادية، ثم أن الجزائر سبق لها أن انتصرت على الاستعمار الفرنسي، في أكبر ثورة في القرن العشرين، لكنها لم تصدر قيم تلك الثورة ولا حتى أسلوب انتصارها، صحيح أن كثيرا من الثورات في أفريقيا وآسيا قد تأثرت بها، ولكن هذا من فعل الآخرين، أي أنه اختيار خارجي.
الانتصار على الإرهاب في الجزائر أو في غيرها من الدول، مهما كانت درجة نجاحه، لا يعتبر نهائيا، لأنه مرتبط بالعنف، الذي هو حال من الصراع الدائمة بين البشر
في التجربة الجزائرية وغيرها من التجارب الدولية الأخرى، نجد أن الانتصار من خلال استعمال العنف المشروع (عنف الثورات من أجل الاستقلال أو عنف الدولة لمقاومة الإرهاب)، لا يمكن تصديره للآخرين، والوهم الأيديولوجي والسياسي اللذان وقعت فيهما الدول الاشتراكية، خاصة الشيوعية منها، تأَّثرا بالتجربتين الروسية والصينية أثبتا فشلهما نتيجة تصدير نموذجين خاصين بالاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، وكذلك هو الأمر بالنسبة للتجربة الإيرانية حين حاولت تصدير الثورة إلى المنطقة، ونحن العرب اليوم ندفع ثمن تصدير الملالي لتصور عقائدي قائم على أساطير مذهبية، في حين نرى انتشار الثقافة الأميركية في جميع دول العالم، وهو نوع من التصدير لقوة ناعمة مرفقة بقوة اقتصادية عسكرية.
ثالثا؛ الانتصار على الإرهاب في الجزائر تحقّق من خلال مقاومة شرسة، وبتكلفتين بشرية ومادية عاليتين، وقد لا يبدو الحديث مهما بالنسبة للتكلفة المالية الآن مع أنها رهنت الدولة الجزائرية لسنوات وجعلتها على خلفية مديونية عالية تحت رحمة البنوك الدولية، إنما الأهم في التجربة الجزائرية هي تلك التكلفة البشرية، حيث تتحدث عدة مصادر على أنها بلغت 200 ألف قتيل، في حرب لم تشارك فيها أطرف دولية بشكل مباشر، وطبعا هذا نتاج لثقافة التضحية التي عرف بها الجزائريون في كل فترات الحرب بما فيها تلك الممتدة بعيدا في التاريخ.
التراكم التاريخي لمواجهة الإرهاب سواء أكان استعمارا خارجيا أو سلطة وطنية متجبرة وطاغية أو جماعات إرهابية، يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل مجاراة التجربة الجزائرية في مقاومة الإرهاب، وتبعا لذلك فإنه من المستحيل تصديرها، لهذا فإن التجارب الدولية بما فيها الدول العربية، وخاصة مصر التي تواجه اليوم موجات من الإرهاب شبيهة بتلك التي عانت منها الجزائر، لا يمكن لها أن تسير في محاربة الإرهاب على نفس الطريق الذي سلكته الجزائر، أولا لأن تاريخ مقاومة المستعمر أو الهزات الكبرى داخليا مختلفة بين الدول، وثانيا للاختلاف في درجة التحمل من شعب لآخر، وثالثا لاستعداد المجتمع لاختيار الحسم العسكري لصالح الدولة، ورابعاً للخروج من الحرب الإعلامية والكلامية، والدخول المباشر في مواجهة مصيرية لا تحتمل تفسيرات من قوى مؤيدة لتغيير نظام الحكم بالقوة من خلال الأعمال الإرهابية.
هكذا ينتهي بنا التحليل إلى القول إن أي محاولات من طرف المسؤولين الجزائريين لطرح التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، في ظل مواجهة دولية لهذا المرض، خارج ظرفيها الزماني والمكاني تعدُّ نوعاً من الهروب المقصود من المشكلات المطروحة خاصة في المجال السياسي، غير أن هذا لا يعني تخلّي دول العالم عن الاستفادة من دراسة تلك التجربة، وليس تقليدها أو التعويل في انتصار تتحكم فيه عوامل داخلية وأخرى خارجية خاصة بكل دولة أو المجتمع، وما يمكن أن تقدمه الجزائر اليوم لأجل الإسهام العالمي في مواجهة الإرهاب، هو المشترك على الصعيدين البحثي والميداني من خلال تصدير نتائج الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية الميدانية التي أجرتها مؤسسات الجيش والأمن والجامعات ومراكز الأبحاث، وما ترتب عنها من توصيات تحولت إلى إطار نظري، يمكن من خلاله معرفة الدوافع والأسباب لظهور الإرهاب وكيفية القضاء عليه، وبناء على تلك النتائج والتوصيات ومثيلاتها في الدول الأخرى، يمكن توقُّع مسار الإرهاب في المجتمع الدولي مستقبلا.