معركة تكتسي أهمية بالغة
يثير الإعلان الذي أطلقه الفريق عبدالرازق الناظوري رئيس أركان الجيش الوطني الليبي عن بدء معركة تحرير مدينة درنة، في شرق البلاد، من سيطرة التنظيمات المتهمة بالإرهاب، تساؤلات حول دلالات توقيته وسيناريوهاته المحتملة.
يأتي هذا الإعلان في غمار سياقين أساسيين؛ أحدهما عام يفيد بأن معركة درنة تراوح مكانها منذ عام 2014، وأعلن الجيش الليبي أكثر من مرة التجهيز لاقتحامها بريا، دون حصول ذلك فعليا، الأمر الذي بات يثير استفهامات حول دوافع ذلك الإرجاء، مع السيطرة الكاملة للجيش على مدينة بنغازي في يناير الماضي. أما السياق الآخر فهو ظرفي حرج يتعلق بتضارب الأنباء عن صحة المشير خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطني، وموعد عودته لممارسة دوره في المشهد الليبي.
إجمالا، يؤشر إعلان الناظوري على أن استراتيجية الجيش الوطني الليبي لحصار المدينة برا وبحرا لدفع مسلحي مجلس شورى مجاهدي درنة (المتهم بعلاقاته مع تنظيم القاعدة) إلى الاستسلام لم تؤت أكلها، كما لم تثمر أيضا المفاوضات السلمية بين قيادات شرقية وأهالي وأعيان درنة عن نتائج ملموسة يمكن أن تجنب المدنيين ويلات الحرب في المدينة.
الدلالات المتعددة لتوقيت الإعلان عن بدء معركة تحرير درنة وسياقاتها، تصطدم بالسؤال المثار حول مدى قدرة الجيش الوطني ذاته على تحرير المدينة في أسرع وقت ممكن، ودون خسائر فادحة في صفوف المدنيين قد تجلب انتقادات دولية، كما حدث في عملية بنغازي
ويرجع تعويل الجيش الوطني -خلال السنوات الماضية- على هاتين الاستراتيجيتين (الحصار والتفاوض) في مدينة درنة، إلى عوامل أساسية، أولها أنهما تسهمان في إضعاف البنية التحتية للجماعات المسلحة المسيطرة على المدينة، بما يقلل كلفة المعارك البرية.
وثانيها أنهما تجنّبان عناء التورط والإنهاك في مواجهة عسكرية قد لا يكون بالإمكان إنهاؤها سريعا، دون خسائر فادحة، في ظل الطبيعة الجغرافية الجبلية الصعبة لدرنة، والتي قد تجعل المعارك العسكرية ضد الإرهابيين تستغرق وقتا أطول، لأنها تعطي فرصا للاختباء وتقليل فاعلية القصف الجوي وصعوبات الملاحقة.
يتعلق ثالث الأمور وأهمها باستراتيجية الجيش الليبي خلال السنوات الماضية في التركيز أكثر على معركة تطهير بنغازي من الإرهابيين، كونها المدينة ذات الثقل الجيوسياسي في شرق ليبيا ومِن ثَمَّ تأثيرها على توازنات المشهد الليبي ككل.
لكن تطهير بنغازي من الإرهابيين وجّه الأنظار في الأشهر الماضية نحو تحرك الجيش الوطني الليبي إلى المحطة القادمة في درنة، خاصة وأن تلك المدينة الساحلية على البحر المتوسط لا تزال مستثناة من السيطرة الميدانية له على كافة مدن الشرق، رغم أهميتها، كنقطة اتصال جغرافي وسيطة بين بنغازي وطبرق، ولذلك فإن تطهيرها من الإرهابيين قد يؤمن مكاسب الجيش في منطقة الشرق لجهة عدم السماح بأي ارتداد محتمل للتنظيمات الإرهابية.
هذا إضافة إلى أن تمدد سيطرة الجيش إلى درنة قد يوفر أوراقا ضاغطة للجيش الوطني سواء إزاء موقفه التفاوضي أمام القوى العسكرية الممثلة للغرب الليبي في مفاوضات توحيد الجيش الليبي التي تقودها القاهرة، أو حتى السيطرة الأمنية على كافة مدن الشرق، بما قد يساعد على إجراء الانتخابات المتوقع إجراؤها في نهاية العام 2018، كخيار محتمل، بعدما تعثرت الخطة الأممية للمبعوث الأممي غسان سلامة.
ويسهم تحرير درنة من سيطرة الإرهابيين في تعزيز رهانات القوى الإقليمية والدولية على الجيش الليبي، خاصة مصر، لا سيما وأن تلك المدينة تعد ملاذا لخلايا إرهابية عابرة للحدود من مصر وتونس والسودان، وكانت تلك الخلايا اتهمت من قبل باختراق الحدود الغربية المصرية لشن هجمات إرهابية في المنيا جنوبي مصر في مايو 2017، وهو ما استتبعه قصف جوي مصري لدرنة، كما تم اتهام إرهابيين تدربوا في المدينة بالتورط في هجوم الواحات في الصحراء الغربية خلال العام نفسه.
بدت أهمية توقيت إعلان معركة درنة في ظل ما ذهبت إليه تحليلات غربية من أن أي غياب محتمل لحفتر عن المشهد الليبي قد يفتح الباب لانشقاقات داخلية سواء في صفوف الجيش أو داخل تحالفات الشرق التي تبلورت منذ إطلاق عملية الكرامة في مايو 2014.
وتكتسي معركة درنة أهمية بالغة باعتبارها اختبارا لتعزيز شرعية مكافحة الإرهاب، في ظل المخاوف المطروحة من أن تتلقف التنظيمات الإرهابية أو قوى عسكرية في الغرب الليبي غياب حفتر على أنه فرصة لاستعادة المواقع التي فقدتها سواء في شرق البلاد أو وسطها أو جنوبها، بالنظر إلى أن فلولا من الإرهابيين كانت قد خرجت من بعد هزيمتها من بنغازي باتجاه درنة.
إلا أن الدلالات المتعددة لتوقيت الإعلان عن بدء معركة تحرير درنة وسياقاتها، تصطدم بالسؤال المثار حول مدى قدرة الجيش الوطني ذاته على تحرير المدينة في أسرع وقت ممكن، ودون خسائر فادحة في صفوف المدنيين قد تجلب انتقادات دولية، كما حدث في عملية بنغازي.
Thumbnail
تبرز هنا عدة سيناريوهات محتملة لمعركة درنة، أحدها يشير إلى أنه بإمكان الجيش الليبي أن يحسم المعركة بشكل سريع، ويحرر المدينة من سيطرة الإرهابيين. وهذا يستند إلى عدة مؤشرات منها أن البنية الأساسية لمسلحي المدينة تعرضت للإنهاك سواء جراء الضربات الجوية المصرية، أو جراء مشاركة أولئك المقاتلين في معركة بنغازي ومقتل عدد كبير من قياداتهم، إضافة إلى اكتساب الجيش الليبي خبرة في حرب الإرهابيين داخل المدن بعد نجاحه في معركة مدينة بنغازي التي تفوق من حيث عدد السكان مدينة درنة التي تضم 80 ألف نسمة تقريبا.
وهذا السيناريو يطرح ارتدادات غير مقصودة، خاصة على الحدود المصرية، لا سيما أن ثمة احتمالا بأن يدفع ضغط الجيش الليبي على مسلحي درنة إلى فرارهم باتجاه الكفرة جنوب شرقي ليبيا، كأحد الملاذات الجغرافية التي يوظفها الإرهابيون لاختراق الحدود الغربية لمصر، ما يفرض على القاهرة تأمينا وتنسيقا مكثفا مع الجيش الوطني الليبي، وهو ما أفصح عنه العقيد أحمد المسماري عندما أشار مؤخرا إلى أن عملية درنة لا يتم فيها التنسيق مع أي جهات خارجية، باستثناء مصر من أجل غلق الحدود، ومنع هروب الإرهابيين.
في المقابل ثمة سيناريو مضاد، يشير إلى أن تحرير درنة سيستغرق وقتا طويلا وتكلفة عسكرية ومدنية باهظة قياسا على السنوات الأربع التي تم فيها تحرير بنغازي. تضاف إلى ذلك الطبيعة الجغرافية الجبلية لدرنة التي تتيح للإرهابيين إطالة المعارك البرية، في ظل ضعف سلاح الجو الليبي وأخطائه في تمييز الأهداف المدنية عن العسكرية.
كما أنه ليس مستبعدا أن تعمد فواعل داخلية وخارجية مناوئة للجيش الوطني الليبي إلى الضغط لتحويل درنة إلى ساحة لافقاد الجيش مكاسبه الاستراتيجية في الشرق الليبي وإبراز الانشقاقات بين مكوناته، خاصة حال استمر غياب حفتر، لا سيما في ظل أمرين، أولهما أن ثمة اتجاهات داخل غرب ليبيا ترفض ربط درنة بالإرهاب العالمي.
وترى أن المدينة تضم إسلاميين محليين يتبعون نهج السلفية الجهادية، وتضم كذلك مسلحين كانوا قد شاركوا في قتال القذافي مثل كتائب شهداء أبوسليم، بل إن محاولة داعش السيطرة على المدينة باءت بالفشل في العام 2015 بعد هزيمته أمام مسلحي مجلس شورى مجاهدي درنة. ويضم ذلك المجلس، الذي يسيطر على المدينة ويكفر مؤسسات الدولة الليبية بما فيها الجيش، تنظيمات من قبيل الجماعة الليبية المقاتلة، وأنصار الشريعة وغيرهما.
ثانيهما أن حكومة الوفاق الوطني تفضل حلا سلميا، وليس عسكريا لأزمة مدينة درنة، كما برز مؤخرا في تصريحات لمحمد السلاك الناطق باسم رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، والذي نقل دعوة السراج إلى تغليب الحل السلمي وعدم استعمال القوة تجاه درنة، مع تأكيد رفضه للفكر المتطرف والإرهاب.
بيد أن ثمة سيناريو ثالثا هجينا، يتمثل في أنه لو بدأت عمليات الجيش الوطني الليبي باقتحام درنة بريا، وتصاعدت حدة خسائر المدينة، فربما يدفع ذلك الأعيان والأهالي في المدينة إلى الضغط على مسلحي مجلس شورى مجاهدي درنة للخروج فعليا منها.
يرتبط أيّ من تلك السيناريوهات الثلاثة لمعركة درنة ومسارها المحتمل بمدى قدرة تحالفات الشرق الليبي في هذه المرحلة على تقليص تأثيرات غياب حفتر المحتمل، عبر دعم معركة الجيش في درنة، كفرصة لتنحية الخلافات السياسية والقبلية الداخلية في الشرق، ورص الصفوف في مواجهة الإرهاب.