مرت ذكرى (43) رحيل أم كلثوم الأسبوع الماضي وأنا أتردد، أكتب أم لا أكتب. ثمة جيل أو أكثر، لا يعرفها. ولم يكن في العشرينات عندما غنت «انت عمري». و«أنساك». و«دارت الأيام». وهو جيل لا يذكر تماماً مقام أحمد رامي في الشعر. ولا يسميه «رامي» كما كنا نسميه على أساس أنه فرد من العائلة. ولا يعرف كامل أو مأمون الشناوي وما كتبا. ولا داب وتاب وعاش على ألحان رياض السنباطي وبليغ حمدي.
فلماذا نكتب لهذا الجيل الذي لا يعرف، حسيّاً، لماذا سمتها الأجيال التي قبله «الست» و«كوكب الشرق» و«الهرم الرابع»؟ هل يمكن أن يفهم عصرها حقاً؟ وأن يمضي ليلة الخميس وهو يفقد توازنه كلما هتفت إِنتَ، إنت، ينتى عمري؟ صحيح أنها عبرت من عصر إلى عصر عندما غنت لأهلنا، ثم أنشدت لنا. ولكن مع غيابها كان الوقت أيضا قد غاب. والقصيدة قد فقدت صبرها. والنكسة قد أشعرتنا بالخجل، فلم تعد الجماهير تطلع السطوح والنوافذ وأغصان الشجر إلا كي تصغي إلى نزار يقرأ من «دفاتر النكسة»!
أم كلثوم كانت رمز العز وعلامة الفرح «ولا قصَّر في الأعمار طول السهر». وكان لا يزال للطرب عرش فأضافت إليه صولجاناً. وكانت الأغنية تؤلف وتلحن لكل الطبقات والفئات والأعمار، فغنت معها القصور والبيوت والأكواخ والبحور والصحاري، وتناهى غناؤها إلى هائميها من النوافذ والحانات والدكاكين وراديوات البوابين والنواطير وترانزستور عم عبده.
كل هذا لم يعد ممكناً بعد غيابها. ولم يعد أحد يحلم بأن يغني مثلها، أو يكتب أو يلحن لها. أعدت العالم لغيابها بذكائها الساخر. قبل أن تمضي طوت مسرحها وعزلت فرقتها وأحالت شعراءها على المعاش: لا رامي ولا ناجي ولا هذه ليلتي. والجموع أيضا ذهبت على التقاعد، فلم يعد الرؤساء والقادة يفاخرون بحجز الصفوف الأولى لعلها تلمح من على المسرح كيف تزدهر وجوههم بالمشاعر.
ما زلت أصغي إليها كل أسبوع. وأحياناً أجبن وأرفض. فبعض الذي تغني له من أوتار لم يعد في الأوتار، وبعض الذكريات تلاشت حتى كذكرى، وبعض الشعر شاب حتى أصبح نثراً. وبرغم كل غرورها وكبريائها وثقتها بالنفس، فقد حرصت على أن تترك لنا صوتاً لكل العصور ووجهاً لكل الفصول، فيروز. وبدهائها الريفي، عرفت فيروز كيف تنسجم مع إيقاع الزمن. أبقت على القصيدة، لكن من دون طولها. وأبقت على العشق لكن من دون إهانة. وزلزلت في الأغنية القومية، ولكن بدون ادعاء.
أخذت فيروز كل الأجيال. أطال الله بعمرها، وغمر بالرحمات زينة العرب.