جيش الأفكار
يعول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عدد من رجال الدين الأتراك المنتشرين في أوروبا، الذين يدينون له بالولاء، على تسويق خطاب أصولي يخدم أجندة تنظيم الإخوان المسلمين، ما دفع بالدول الغربية إلى رفض انتداب الأئمة الأتراك في المساجد.
ولم تمض شهور قليلة على تورط أنقرة في التجسس على مواطنين أتراك في ألمانيا والنمسا وهولندا، حتى أعلنت فرنسا استبعاد الأئمة القادمين من تركيا، والبحث عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل، بعد اتهام الأئمة الأتراك بتصدير خطاب أصولي لمصلحة النظام الحاكم في تركيا.
والواقع أن الأئمة الأتراك يعدون واجهة خفية لتشكيل الحياة الدينية للأتراك المقيمين في أوروبا لخدمة أهداف سياسية، علاوة على الدور المحوري الذي يلعبونه لتكريس توجهات سلطة الحكم في تركيا، قام بها الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية.
ورغم أن الاتحاد الذي تأسس في العام 1924، كان الهدف منه الحفاظ على الإسلام في الجمهورية التركية العلمانية، فإنه تحول في عهد أردوغان إلى أداة سياسية لتعزيز مصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويتجلى الاستخدام السياسي للأئمة الأتراك في أوروبا، في ترويج خطاب سياسي يستدعي إرث العثمانية القديمة، ومحاولة إحياء مظاهرها في ثوب جديد، خصوصا أن أردوغان يرى أن هناك عدداً من دول أوروبا تُعد امتداداً للتواجد التاريخي العثماني في أوروبا في الماضي.
وفي هذا السياق، يصعب النظر إلى الرفض الفرنسي، بعيداً عن توجهات السلطة في تركيا لأسلمة المجتمع، كما لا يمكن فصل القرار الفرنسي عن توجهات الاتحاد الأوروبي الذي قضى بتجميد مفاوضات عضوية تركيا في ظل تماهي أردوغان مع التيارات المعادية للعلمانية.
وتبدي أوروبا قلقاً بشأن دعم أنقرة الكيانات الدينية المتطرفة في عدد كبير من دول المنطقة، من خلال توفير الاستضافة والدعم المالي والمنصات الإعلامية، حيث يقترن الرفض الفرنسي للأئمة الأتراك بتوجهات دول أوروبية تتصاعد شكوكها حيال دور سياسي مشبوه للأئمة الأتراك.
وتجلت مخاوف أوروبا، في فبراير 2015 عندما وافق برلمان النمسا على مشروع قانون ينص على إخلاء البلاد من الأئمة الأتراك العاملين في مساجد تابعة لفرع الاتحاد الإسلامي التركي بالنمسا، والامتناع عن استقبال أئمة جدد من تركيا.
وتفحص النمسا، منذ وقت، ملفات رفعها نائب عن حزب الخضر بيتر بيلز، يتهم فيها فرع الاتحاد في النمسا بالتجسس لصالح أنقرة، مؤكدا حيازته معلومات تثبت ضلوع هذا الفرع في مراقبة عناصر من جماعة “خدمة” إضافة إلى أكراد وصحافيين معارضين.
وتسعى الحكومة النمساوية الجديدة برئاسة سباستيان كورتس إلى تشديد الرقابة على المساجد والمنظمات الخيرية، ومدارس رياض الأطفال، والثانويات، وحظر التمويل الخارجي للمنظمات والمراكز الإسلامية العاملة في النمسا، إضافةً إلى إغلاق كافة الكيانات التي تتعارض مع القوانين.
وجاءت في البرنامج الحكومي، المكون من 180 صفحة، خطة أمنية لمكافحة الارهاب والتشدد وذلك عن طريق محاصرة وتتبع نشطاء الإسلام السياسي في البلاد، الذين تعتبرهم الأحزاب اليمينية الفائزة في الانتخابات خطرا محتملا.
وأكد كورتس على وجود ضرورة ملحة للتفرقة بين الإسلام كدين وظاهرة الإسلام السياسي، لافتا إلى أن الإسلام كدين معترف به في النمسا رسميا منذ عام 1912، ومشددا على أن الإسلام السياسي ليس له مكان في النمسا، مشيرا إلى أنه يؤدي في نهاية المطاف إلى الإرهاب وتهديد المجتمع.
وقبل أشهر قليلة، ألقت الاستخبارات الألمانية القبض على أئمة من الاتحاد موالين لأردوغان، وبحوزتهم قوائم لمشتبه فيهم من أنصار فتح الله غولن، رجل الدين المعارض المقيم في الولايات المتحدة، تم تقديمها للسلطات التركية.
وكانت صحيفة دير شبيغل الألمانية، واسعة الانتشار، أكدت في تقرير منشور لها مؤخراً أن الرئيس أردوغان يستخدم الاتحاد كجزء مهم من شبكات التحكم في الأتراك المغتربين من أجل أهدافه الخاصة.
ويعود التعاطي السلبي مع الأئمة الأتراك إلى شكوك أوروبية في الخطاب المؤدلج للدعاة الأتراك، فضلاً عن حرص أوروبي على ضمان تلبية متطلبات الاندماج في المُجتمعات الغربية، وضمان التنوع الثقافي بجوار الحفاظ على مبادئها العلمانية.
ويجهل الأئمة الأتراك اللغات الأوروبية، ولا يعرفون واقع الشباب المسلم في مجتمعات الهجرة، ناهيك عن انقطاع فرص الحوار بين الشباب المسلم والأئمة في المجتمعات الأوروبية، لأنهم يقدمون مواعظ أيديولوجية لا تنفصل عن قيم وأفكار نظام الحكم في تركيا.
ولم تكن الإجراءات الفرنسية في إطار مكافحة التشدد التركي تقتصر على رفض توظيف الأئمة الأتراك، إذ علقت فرنسا، مطلع يناير الجاري، إعلان نوايا كانت وقعته مع تركيا في العام 2010، يتضمن زيادة تدريجية لعدد الأئمة حتى يصل إلى 151 إماما بنهاية العام الجاري.
وتستدعي حادثة رفض فرنسا تعيين الأئمة الأتراك العديد من الأبعاد السياسية، لأن التوجهات السياسية التركية في الداخل والخارج باتت تتسم بالاضطراب وتغيير التموضع، وبات يتعذر على أوروبا فهمها، من منظور استقرار تركيا، أو من منظور التوجه التركي نحو دعم جماعات الإسلامي السياسي.
ويكشف الرفض الفرنسي لتعيين أئمة جدد عن تراجع مضطرد في إعجاب الغرب بنموذج “العدالة والتنمية” الإسلامي، الذي ادعى وقت ولادته أن فكرة برنامجه السياسي تم استلهامها من الأحزاب المسيحية الديمقراطية في ألمانيا التي تجمع بين الديمقراطية والدين.