لماذا خسر الفلسطينيون، أقلّه مؤقتا، قضية القدس التي مرّرها الرئيس دونالد ترامب بطريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها وقحة. السبب يعود بكل بساطة إلى أن القيادة الفلسطينية لم تعدّ نفسها لسيناريو كان متوقّعا ومنتظرا منذ فترة طويلة. إنّه سيناريو خروج واشنطن من دور الوسيط وإعلان الرئيس الأميركي أن القدس عاصمة لإسرائيل وأنّه سينقل السفارة الأميركية إلى المدينة. هذا ما أكّده لاحقا نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الإنجيلي – الصهيوني الذي وعد بنقل السفارة إلى المدينة المقدّسة قبل نهاية العام 2019.
يندرج ما حصل في سياق طبيعي نظرا إلى أن القدس كانت موضع وعود أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية فيما نائبه بنس على استعداد للمزايدة عليه في كلّ ما من شأنه استرضاء اليمين الإسرائيلي من منطلق أيديولوجي بحت.
هذا لا يعني بالطبع أن أهل المدينة خصوصا والفلسطينيين عموما سيرضخون لما يريده ترامب وأنّ مصير المدينة صار محسوما.
لا تزال القدس بالنسبة إلى الفلسطينيين خطّا أحمر ولا يزال أهلها يقاومون بأجسادهم العارية الهجمة الاستعمارية الإسرائيلية. ولا تزال القدس مكانا يصلح منطلقا لتسوية شاملة تأخذ في الاعتبار الحاجة إلى نوع من العدالة. تلبي مثل هذه التسوية المفترضة الحقوق الفلسطينية المشروعة وترفض في الوقت ذاته السقوط في حروب دينية جديدة معروف تماما أن قوى التطرّف في المنطقة، على رأسها إيران، تعمل من أجل تأجيجها.
لم تكن تصرفات ترامب وبنس سوى صبّ للزيت على النار في منطقة ملتهبة أصلا وفي ظلّ اختلال كبير في موازين القوى لمصلحة إسرائيل. لذلك كان من الأفضل لو اعتمدت القيادة الفلسطينية التروي ولم تقدم على خطوة رفض اللقاء مع بنس خلال زيارته للمنطقة.
الأكيد أن اللقاء مع نائب الرئيس الأميركي ما كان ليقدّم أو يؤخّر في شيء. لكن فكرة مقاطعة القيادة الفلسطينية للولايات المتحدة ليست فكرة جيّدة، خصوصا أن ليس لدى هذه القيادة أيّ بدائل أو أيّ وسيلة ضغط على واشنطن. ماذا ينفع فلسطين إذا ربحت العالم كلّه وخسرت أميركا؟
المقاطعة الفلسطينية لواشنطن لن تعيد حجرا من القدس
يمكن لمثل هذه الخطوة أن تكسب رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس “أبومازن” شعبية في الشارع الفلسطيني بسبب الاستياء العارم من الإدارة الأميركية. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل الشعبية في الشارع والشعارات الكبيرة يمكن أن تعيد حجرا من القدس في غياب العودة إلى بذل جهود على كل صعيد، بما في ذلك الداخل الفلسطيني من أجل تحديد ما يمكن عمله في هذه الظروف الصعبة والمعقدة إلى أبعد حدود؟
لم يكن من هدف لياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، سوى الوصول إلى واشنطن. توفّر له ذلك في العام 1993 عندما وقع اتفاق أوسلو مع إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض.
في المقابل، لم يكن من هدف لليمين الإسرائيلي، الذي رفض اتفاق أوسلو، سوى الوصول إلى قطيعة بين “أبوعمّار” وواشنطن. تحقّق ذلك في عهد جورج بوش الابن بعد سلسلة أخطاء ارتكبها ياسر عرفات كان من بينها الدخول في لعبة عسكرة الانتفاضة التي اندلعت في العام 2000 ثم عدم استطاعته، قبل ذلك، فهم ما هي إسرائيل وكيف تعمل من داخل، فضلا عن عدم الاستيعاب للعبة السياسية في واشنطن وما يدور في كواليس العاصمة الأميركية.
لعلّ أفضل ما يمكن أن يفعله الفلسطينيون حاليا يتمثّل في إعادة ترتيب بيتهم الداخلي من جهة والسعي إلى الاعتراف بالواقع والتصالح معه من جهة أخرى.
ما تعنيه عملية إعادة ترتيب البيت الداخلي هو التعاطي بجدية أكبر مع موضوع المصالحة الفلسطينية، خصوصا بعد دخول إيران مجددا على خط تحريض “حماس” على تكريس الانقسام الفلسطيني وتعميقه وغياب أيّ حماسة حقيقية لدى رئيس السلطة الوطنية لمثل هذه المصالحة.
أمّا التصالح مع الواقع، فيعني أوّل ما يعني الاعتراف بأنّ القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الأولى وأنّ مدنا عربية كبرى تدمّر حاليا على نحو منهجي.
من بين هذه الدول بغداد والموصل ودمشق وحلب وحمص وحماة. هناك دول عربية لم تعد قائمة بعد كلّ الذي حلّ بالعراق وسوريا وليبيا واليمن. لبنان بدوره مهدّد. صحيح أنّه ما زال يقاوم، لكنّ الهجمة الإيرانية التي يتعرّض لها كبيرة جدّا وتتميّز بشراسة تعكس إلى حد كبير عمق الأزمة الداخلية في إيران نفسها.
باختصار شديد، ثمّة حاجة إلى استراتيجية فلسطينية جديدة ومختلفة تأخذ في الاعتبار أن هناك ما هو أبعد من قضية القدس. يوجد عالم جديد، في ظلّ إدارة أميركية لديها أولويات مختلفة وتوجد منطقة جديدة كلّ دولة فيها مهتمة بوضعها الداخلي ومنصرفة إليه كلّيا.
لا عيب في الاستعانة بكلام صدر عن الملك عبدالله الثاني الذي استقبل نائب الرئيس الأميركي عندما جاء إلى المنطقة واتفق معه على أن يختلفا. قال عبدالله الثاني في ندوة عقدت في دافوس، قبل أيّام قليلة، لدى سؤاله عن القدس “إنها مسألة تشكل تعقيدا بالنسبة إلى الأردن. وكانت لدينا حوارات جيدة مع الرئيس (الأميركي) والإدارة (الأميركية) على مدار السنة الماضية. وموقفنا آنذاك تمثل في أننا نعرف أنّ هذا الأمر مهم بالنسبة إلى الرئيس. فهو وعد أطلقه ضمن حملته الانتخابية. لكنّ موضوع القدس يجب أن يكون جزءا من حل شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد تم اتخاذ القرار (الأميركي) كما تعلمون جميعا. وكان له ردّ فعل عنيف لأنه أحبط الفلسطينيين الذين يشعرون بأنه لم يعد هناك وسيط نزيه. وأنا أود أن أتمهل في إصدار الأحكام، لأننا ما زلنا ننتظر من الأميركيين أن يعلنوا عن خطتهم. ولكن أقدر وأتعاطف بشكل كبير مع ما يشعر به الفلسطينيون. إن القدس تُعتبر موضوعا عاطفيا للجميع، وأعتقد أن علينا أن ننظر إلى المستقبل بالنسبة إلى ما نريده للقدس. هل ينتهي المطاف بالقدس كمدينة تفرقنا، وهو الأمر الذي أعتقد أنه سيكون كارثيا للإنسانية جمعاء، أم تبقى القدس مدينة الأمل التي توحّدنا؟ فهي مدينة خالدة بالنسبة إلى المسلمين والمسيحيين، كذلك اليهود”.
ليس في إسرائيل من يريد أن يسمع لغة أخرى غير لغة متابعة الاستيطان وإخراج القدس من معادلة التسوية. ليست إسرائيل في وارد التسوية ما دام ليس هناك ما يمكن أن يجبرها على ذلك.
في ظلّ هذه الأوضاع الصعبة، هناك حاجة إلى طلاق فلسطيني مع الماضي أوّلا، خصوصا مع اللغة الخشبية التي لا تريد أخذ العلم بالتطورات التي تشهدها المنطقة والعالم. على الفلسطينيين أن لا يخافوا من شيء وأن لا ينطلقوا في مغامرات هوجاء مثل إشعال انتفاضة، فهم شعب موجود وليس في استطاعة أحد إلغاءه.
هذا ليس وقت إلقاء دروس على أحد، بمقدار أنّه وقت البحث عن تغيير في الجوهر ينطلق من أنّ لا مفرّ من إعادة ترتيب البيت الداخلي أوّلا والبحث في كيفية التعاطي مع الإدارة الأميركية ثانيا وأخيرا. من لديه تلك القدرة على الابتكار فلسطينيا في هذه الظروف بالذات، ظروف ليس معروفا فيها هل لدى الإدارة الأميركية، على الصعيد الفلسطيني، بوصلة أخرى غير البوصلة الإسرائيلية!