نفوذ يتسع تحت غطاء الحماية الأمنية
تسعى الصين إلى توسيع نفوذها الأمني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، متخفية تحت غطاء الشركات الأمنية الصينية الموجهة لحماية رعايا بكين في المنطقة، مستفيدة من تجربة شركة الهند الشرقية التي تحولت ببطء إلى قوة تحكم شبه القارة الهندية، وهو ما تبحث عنه الصين الداعمة لعالم متعدد الأقطاب حيث يرجح أن تزيد من اعتمادها على الشركات الأمنية الخاصة على المدى الطويل.
واشنطن - يعدّ اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا جديدا نسبيا، ولكنه يتنامى مع حاجة بكين المتزايدة إلى الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة الجديدة بالإضافة إلى حاجتها إلى موارد الطاقة التقليدية. وأصبحت البلاد مهتمة أيضا بالتمتع بالفوائد اللوجستية والنقل التي تقدمها بلدان المنطقة. كما تهتم بتطوير الشراكات مع الجهات الفاعلة المحلية في مجالات التكنولوجيات الجديدة وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.
ويقول الدكتور سيرغي سوخانكين، الزميل في مؤسسة جايمس تاون، في تحليل نشرته مؤخرا، إن الصين تسعى إلى تحقيق التوازن في مواجهة نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط لكنها لا تعارض الولايات المتحدة بشكل فعال. وتفضل زيادة قوتها ونفوذها في المنطقة بشكل تدريجي، دون التورط بشكل مباشر في صراعات مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. وتهدف أيضا إلى تعزيز مكانتها كقوة عظمى من خلال إقامة علاقات اقتصادية وتجارية، بينما لا يلعب التعاون الأمني دورا مركزيا حتى الآن.
وبينما تتمتع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالإمكانات الاقتصادية الكبيرة والأنشطة التجارية الناشئة بسرعة، إلا أنها تعاني من سلسلة من الصراعات وعدم الاستقرار، مما يشكل تحديات أمنية تُنفر المستثمرين المحتملين.
ويشير سوخانكين، وهو أيضا مستشار في مركز تحليلات دول الخليج بواشنطن، إلى أن المسافة الجغرافية والاتصالات الخفيفة السابقة والاختلافات الاجتماعية والثقافية واللغوية بشكل رئيسي أبقت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارج مناطق الاهتمام الصينية الرئيسية لسنوات عديدة. وبينما تأسست العلاقات الدبلوماسية لأول مرة مع مصر في 1956، لم تقم بكين بعلاقات دبلوماسية مع جميع دول المنطقة حتى 1992.
يمكن تقسيم المشاركة الحالية للحزب الشيوعي الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى ثلاثة مجالات هي المجال السياسي والمشاركة السياسية والتعاون الأمني، وهو الذي نحن بصدد التركيز عليه، حيث انطلقت الصادرات العسكرية الصينية إلى الشرق الأوسط في منتصف السبعينات، وبلغت ذروتها في الثمانينات، ثم انخفضت بعد ذلك في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ومن المرجح أن تعتمد الصين على أداتين رئيسيتين في تطوير العلاقات الدفاعية والأمنية مع الجهات الفاعلة في المنطقة. وتشكّل إمدادات الأسلحة الركيزة الأساسية للشراكات الإقليمية. وتعمل الصين على تجديد الجهود الرامية إلى إنشاء قواعد بحرية وعسكرية في المنطقة، وهو ما يبدو خيارا أقل قابلية للتطبيق مع تواصل الاتجاهات الحالية.
كما يمكن أن يكثر اعتماد الجانب الصيني على الشركات الأمنية الخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظروف معينة، ليتبع بذلك طريقة أخرى لإقامة التعاون الأمني. ويمكن تأطير ذلك من خلال التطورات الداخلية في بعض دول المنطقة ومصالح الصين في توسيع وجودها شبه العسكري من خلال استخدام الشركات الأمنية الخاصة والكيانات المماثلة. وتوفر دراسة الحالة في العراق والسودان بعض السياق لطبيعة الأنشطة والوظائف التي تؤديها الشركات الأمنية الخاصة الصينية في المنطقة.
ولا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معرضة لمجموعة واسعة من المخاطر السياسية والأمنية، رغم التراجع الواضح للصراعات الإقليمية والأزمات الأمنية الأكثر نشاطا. ووفقا لمؤشر الدول الهشة، يظل اليمن والصومال وسوريا وأفغانستان والعراق من أكثر البلدان هشاشة في العالم.
وتحتاج الدولة والشركات الصينية عامة إلى تنظيم دراسة جدية لهذا الاتجاه عند التفكير في المخاطر المحتملة التي يواجهها المواطنون الصينيون في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. واعتبارا من 2019، حددت بعض الدراسات أن ما يصل إلى 550 ألف مواطن صيني موجودون في الشرق الأوسط. ويمكن توفير الأمن الكافي لهؤلاء المواطنين الصينيين جزئيا من خلال الشركات الأمنية الخاصة الصينية.
وكما قال الأكاديمي الإيطالي أليساندرو أردوينو، “قبل مبادرة الحزام والطريق بفترة طويلة، عندما لم تكن الدول المضيفة قادرة على ضمان حتى الحد الأدنى من الأمن، بدأت الشركات المملوكة للدولة في قطاع الطاقة الصيني في توظيف شركات أمنية خاصة متعددة الجنسيات.. بما في ذلك شركة كونترول ريسك، وهي شركة أمنية مقرها المملكة المتحدة تحمي حقول النفط الصينية في العراق ثم تحركت سوق الأمن الصينية منذ 2015 خارج حدود البلاد بالشراكة مع شركات الأمن الدولية التي تعاقدت معها المؤسسات الصينية المملوكة للدولة”.
تطور التعاون مع شركات الأمن الأجنبية منذ ذلك الحين، مع زيادة نظيراتها الصينية من حصتها ومسؤولياتها. وأصبحت الشركات الأمنية الخاصة الصينية الأكثر نشاطا الآن قادرة على المناورة في الخارج من خلال الاستعانة بمصادر خارجية كالميليشيات المحلية وشركات الأمن لتلبية متطلباتها الأمنية دون الحاجة إلى دفع أقساط مرتفعة تطلبها الشركات متعددة الجنسيات.
يرجح المحلل أن “تشهد اتجاهات السوق الصينية تفاعلا متزايدا بين الشركات الصينية الخاصة والشركات المملوكة للدولة الصينية ومقدمي خدمات التأمين الخاص الدوليين لسببين رئيسيين: أولا، تولّد مبادرة الحزام والطريق عددا متزايدا من احتياجات التأمين الخاصة للشركات والأفراد الصينيين العاملين في الخارج. ثانيا، ليست الحكومة الصينية مستعدة أو قادرة على نشر الموارد اللازمة للوصول إلى جميع المناطق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن قدرة الشركات الأمنية الخاصة الصينية على أداء مهام الاسترداد غير مثبتة، والأهم من ذلك، أنها غير محددة في القانون الصيني”.
وأشارت دراسة أخرى إلى أن المستثمرين الصينيين لا يعتمدون فقط على الشركات الأمنية الخاصة الغربية وقوات الأمن المحلية في أنشطتهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وترسل الصين شركاتها الأمنية الخاصة لحماية المغتربين الصينيين والبنية التحتية التي تمولها.
في العراق مثلا، ظهر في 2014 جانغ دونغ فانغ، نائب رئيس الرابطة الدولية للحراس الشخصيين في الصين، على إحدى وسائل الإعلام الصينية خلال مقابلة صرّح فيها بأن المواطنين الصينيين في العراق (كانوا حينها بين 10 آلاف و15 ألف مواطن صيني يعملون في شركتي بتروتشاينا وسينوبك) كانوا محميين بآلية حماية ثلاثية. وذكر أن الحماية الأوسع نطاقا توفرها قوات الأمن العراقية، وتوفر الشرطة التي تديرها شركة نفط الشمال الطبقة الثانية لتحرس المعسكر وأماكن عمل العمال الصينيين، وتوفر قوات الأمن الصينية الغطاء الأعمق.
واعتبر أن التحدي الأكبر الذي يواجهه مقدمو الخدمات الأمنية الصينيون يكمن في كونهم مجهزين فقط بأسلحة للدفاع عن النفس، مما يبقي قدرتهم على الاستجابة للأزمات محدودة نسبيا. وفي أواخر يونيو 2014، أخرج مواطنون صينيون من المنطقة بمساعدة شركة أمنية صينية واحدة، وهي مجموعة في.أس.أس الأمنية. وتمكنت من إجلاء أكثر من ألف عامل صيني فروا من المواجهة بين الحكومة العراقية وداعش. وامتنع الجانب الصيني الرسمي عن تقديم أي تفاصيل حول العملية.
وسلّطت الحادثة الضوء على وجود شركات أمنية صينية على الأراضي العراقية. وفي حين لا يتوفر الكثير من المعلومات حول في.أس.أس وأنشطتها على الساحة العامة، يوفر تحليل المصادر المختلفة بعض الأفكار حول هيكل الشركة وطبيعة أنشطتها.
وحددت الشركة نفسها على أنها “نوع جديد من المنظمات الأمنية التي تختلف عن شركات الخدمات الأمنية الصينية التقليدية”. وذكر موقعها الإلكتروني أن تفرّدها يقوم على خدمات متطورة، بما في ذلك حماية الشخصيات المهمة وإدارة المخاطر وتوفير الاستشارات الأمنية والتدريب على مكافحة الإرهاب وإدارة المشاريع في المؤسسات ذات التمويل الصيني وتوفير الحلول الأمنية للبيئات عالية المخاطر.
كما يذكر وصف الشركة تفصيلا مثيرا للاهتمام، لم يُمكن التحقق منه من مصادر أخرى، وهو أنها “تدرب مئات الآلاف من الموظفين الأجانب في الشركات الممولة من الصين”. ويذكر الموقع أيضا أن للشركة فرعين رئيسيين: أولا، تتضمن خدمة الأمن الداخلي الشامل فروعا فرعية ذات صلة بالمهمة، بما في ذلك شركات تكنولوجيا المعلومات والاستشارات الأمنية، بالإضافة إلى الفروع الإقليمية المحلية في هانغتشو ويوننان وفانشان. ثانيا، تدير خدمة الأمن الشامل في الخارج فروعا في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وجنوب آسيا وهونغ كونغ وأميركا الجنوبية. ومن الواضح أن تركيز الفروع الخارجية الرئيسي يكمن في التدريب والمشاورات في مجال مكافحة الإرهاب التي تشمل تقييم المخاطر الأمنية وتحليل البيانات. ولم تُذكر أي مهام عملية للشركة في هذه المجالات.
وحسب المعلومات مفتوحة المصدر المتعلقة بالشركة، من المرجح أن يستمر استخدام الجانب الصيني لهذه الكيانات في المستقبل. لكن، ونظرا لمجموعة المهام المحدودة التي يمكن إنجازها، من المرجح أن يركز العمل على توفير المهام الأساسية فقط مثل الحماية الجسدية للمواطنين الصينيين العاملين في المنطقة والإشراف على البنية التحتية العاملة. لكن من المرجح أن تعمل هذه الكيانات بشكل وثيق مع مقدمي الخدمات الأمنية المحليين.
ووفقا لتقرير نشرته هيلينا ليغاردا وميا نويينز سنة 2018، يقدم نشر الشركات الأمنية الخاصة الصينية في السودان وجنوب السودان مثالا آخر على إنجازات عمل الشركات الأمنية الخاصة الصينية في الخارج والقيود التي تعاني منها. ويرجع أول ظهور لمقدمي الأمن الصينيين في المنطقة إلى التسعينات بسبب اهتمام الصين المتزايد بموارد النفط المحلية. ومهّدت صفقات أسلحة ثابتة جل طرق تعميق التعاون.
كما يهتم السودان إستراتيجيا بموارد النفط المحلية، ويمتلك ما يقرب من 3.5 مليار برميل من النفط الخام ضمن الاحتياطيات المؤكدة، مع اقتصار الاستكشاف الجيولوجي على ما يقدر بنحو 30 في المئة فقط من موارده المحتملة. وأصبح الجانب الصيني أكثر قلقا بشأن الوضع الأمني المتوتر في المنطقة.
◙ التحدي الأكبر الذي يواجهه مقدمو الخدمات الأمنية الصينيون يكمن في كونهم مجهزين فقط بأسلحة للدفاع عن النفس
وخلال إحدى حوادث 2008، اختُطف تسعة عمال صينيين يعملون لدى مؤسسة البترول الوطنية الصينية في جنوب كردفان، وقُتل أربعة منهم. وفي واقعة أخرى في 2012، اختطف متمردون من “الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال” 70 مواطنا أجنبيا، من بينهم 29 عاملا صينيا. وأدى عدم الاستقرار والمخاطر الأمنية المتعددة التي يواجهها الموظفون (خاصة الذين يعملون في شركات النفط) إلى انخفض عدد المواطنين الصينيين المقيمين في السودان وجنوب السودان بين عامي 2012 و2021.
واستمر الاتجاه حتى 2023 مع الأزمة الجديدة في السودان، حين اندلع صراع مسلح داخلي في الخامس عشر من أبريل وامتد إلى الخرطوم ومنطقة دارفور. وسارعت السلطات الصينية بإرسال سفن حربية لإجلاء 1300 مواطن صيني محاصرين في الدولة التي مزقتها الحرب. وكانت هذه المرة الثالثة التي ترسل فيها البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي سفنا لتنفيذ عملية إجلاء في الخارج (بعد ليبيا سنة 2011، ثم اليمن في 2015).
وتبقى البيانات المتاحة عن الشركات الأمنية الخاصة الصينية العاملة في السودان وجنوبه غير متسقة وتفتقر إلى تفاصيل واضحة ومحددة. وذكر تقرير صادر عن معهد ميركاتور للدراسات الصينية أن أكبر شركات استخراج النفط الصينية العاملة في المنطقة (مثل مؤسسة البترول الوطنية الصينية) “استخدمت منذ فترة طويلة الشركات الأمنية المشتركة لتوفير الحماية”.
وحدد غياب دليل يشير إلى وجود أمني صيني خاص في السودان في 2018 تاريخ أول عملية اختطاف ملحوظة للمواطنين الصينيين، لكنه كشف عن وجود العديد من الشركات الأمنية الخاصة الصينية في 2012. وأمكن التأكد لاحقا من وجود الشركات الأمنية الخاصة الصينية في جنوب السودان بعد معركة جوبا في يوليو 2016.