أبوبكر الديب
توقع أبوبكر الديب الباحث في العلاقات الدولية الإقتصاد السياسي نهاية سيطرة الدولار علي العالم في غضون 25 عاما، وسط التآكل البطيء لقيمته وضعف دعم الحلفاء له كعملة احتياطية في العالم والزيادات في سعر النفط وتراجع الولايات المتحدة في إنتاج النفط..
وقال اديب إن هناك عوامل عدة تهدد مستقبل الدولار الأمريكي صاحب التاريخ الطويل الممتد منذ أكثر من 240 عاما وبالتحديد منذ أن أذن الكونجرس القاري للولايات المتحدة بإصدار العملة القارية في عام 1775 وفي 2 أبريل 1792، استحدث كونجرس الولايات المتحدة الدولار الأمريكي كوحدة قياسية مالية موحدة في البلاد.
ووأوضح أبوبكر الديب، أنه خلال العام الماضي 2022 ، سجلت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي تراجعا بنسبة 0.44 %، مسجلة 58.36 % من تلك الاحتياطيات، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، والتي تشير إلى أن ذلك المستوى هو الأدنى منذ العام 1995 على الأقل.
وذكر أبوبكر الديب أن ذلك التراجع يأتي في وقت تتسارع فيه خطوات عديد من الدول والتكتلات إلى الحد من هيمنة الدولار على التعاملات التجارية حول العالم، وخاصة عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وفرض العقوبات الغربية علي موسكو وبدأ ذلك من خلال التوجه نحو التعامل بالعملات الوطنية للدول على الصعيد الثنائي، أو من خلال إطلاق عملات جديدة، بما يسهم في تعريض الدولار لتحديات مستقبلية واسعة تتجدد معها التساؤلات بشأن ما إن كان العالم سوف يشهد بداية النهاية لهيمنة الدولار في ضوء تلك التطورات.
وأضاف أن السؤال الذي يطرح نفسه هم ماذا لو اتجهت دول كثير وخاصة الدول الصناعية الكبرى ومنها الاتحاد الأوروبي مثلا الي التحول عن الدولار الأميركي الي عملات بديلة، فالصين وروسيا والهند والبرازيل والارجنتين وايران ومجموعة البريكس ودولا أخري تسير في هذا الاتجاه..
وأوضح أبوبكر الديب أنه منذ إطلاق العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" في عام 1999 وحتى نهاية عام 2022، انخفضت نسبة مساهمة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمي من 71% إلى 58%، وسط توقعات بأن تستمر رحلة تراجع حصة الدولار في الاحتياطات الأجنبية العالمية، حال انخفاض نسبة مساهمته في حجم التجارة الدولية، والتي تبلغ حاليًا 50% من إجمالي المعاملات التجارية العالمي، وسط تاثير متزايد لليوان الصيني والعملات غير الدولارية الأخرى على هيمنة "الورقة الخضراء" على الاقتصاد العالمي.
وقال أبوبكر الديب أن "الدولار" هو تلك القوة الناعمة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو سلاح فتاك لايقل قدرة وفعالية عن أسلحة الحرب المتعارف عليها ولذا تحرص واشنطن علي قوته بكل السبل المعلنة والخفية، وحاربت من أجل إيجاد نظام نقدى جديد يعتمد علي الدولار عقب الحرب العالمية الثانية، وتحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة العالم الأولى، تستخدمه الولايات المتحدة كسلاح اقتصادي للدمار أحيانا، وهو ما تحاول فعله مع روسيا حاليا ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية .
وأكد أنه في إطار تقوية الدولار الأمريكي، قرر الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) رفع سعر الفائدة مرات كثيرة لكن الأمر الذي لم يكن في حسبانه وهو يكافح التضخم الذي لم تشهده الولايات المتحدة الامريكية منذ عقود هو انهيار البنوك التي لم تتحمل الفائدة المرتفعة.
وذكر أبوبكر الديب أن الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت سلاح "رفع الفائدة" على روسيا، من أجل انهيار الطلب علي البترول، وبالتالي تصفير مكاسب روسيا من صادرات النفط، المقوم بالدولار، فكلما ارتفع سعر الدولار كلما ارتفع سعر البرميل مقوما بعملة الروبل الروسي، حتي يحدث تدمير للطلب علي النفط الروسي.، لكن حتي هذا أيضا لم تنجح فيه الولايات الامتحدة بعدما اتبعت أوبك + سياسة خفض الانتاج لتعود الأسعار للارتفاع من جديد.
لكن ماهي قصة سيطرة الدولار علي العالم .. يقول أبوبكر الديب أنه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، اتجهت الدول المنتصرة فيها، إلى تقسيم الغنيمة ورسم صورة جديدة للعالم فى ظل اختلاف موازين القوى، وكانت أمريكا الأقوى عسكريا واقتصاديا، فوقعت مع 43 دولة اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، لتطوير النظام النقدى الدولى الجديد، وجعلت فيها "الدولار" هو المعيار النقدى الدولى لكل عملات العالم، بعد أن كان الذهب هو الغطاء النقدى لكل هذه العملات، وتعهدت "واشنطن" وقتها بأنها ستمتلك غطاء من الذهب، يوازى ما تطبعه من دولارات، وتثبيت قيمة الدولار أمام الذهب بما يعادل 35 دولارًا للأوقية، أى أن من يسلم أمريكا 35 دولارا تسلمه أمريكا "أوقية ذهب"، بينما باقى العملات يتم تقييمها بالدولار، وليس بالذهب مباشرة، وهنا سبب تسمية "الدولار" بالعملة الصعبة، فهو العملة الوحيدة التى يمكن استبدالها بالذهب، واكتسب ثقة دولية لاطمئنان العالم لوجود تغطيته من الذهب فى أمريكا، صاحبة أكبر رصيد من الذهب حينها، حيث كانت تمتلك 75% من ذهب العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأشار الي أن الدول جمعت فى خزائنها أكبر قدر من الدولارات، على أمل تحويله لقيمته من الذهب، فى أى وقت أرادوا، واستمر الوضع على هذا الحال حتى مساء الأحد 15 أغسطس عام 1971، حيث خرج الرئيس الأمريكى "ريتشارد ميلهاوس نيكسون"، وهو الرئيس السابع والثلاثون لأمريكا، بعد اجتماعات سرية فى "كامب ديفيد" مع رئيس الاحتياطى الفيدرالى ووزير الخزانة ومستشارين فى البيت الأبيض، ليصدم شعوب وحكومات العالم جميعا، ويعلن بشكل مفاجئ، أن بلاده لن تسلم حاملى الدولار، ما يقابله من ذهب، وهو ما سمى بـ "صدمة نيكسون"، ليكتشف العالم، أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بلا حساب، وأن ما طبعته كان أكثر بكثير من الذهب الذى تملكه، وأنها اشترت خيرات الشعوب، وامتلكت ثروات العالم بحفنة من "أوراق خضراء" لا غطاء ذهبى لها.. ولم تتمكن أى دولة من الإعتراض ورفض هذا النظام النقدى الجديد، لأن هذا كان معناه حينها أن كل ما خزنته هذه الدول من مليارات الدولارات فى بنوكها سيصبح ورقا بلا قيمة، وهى نتيجة أكثر كارثية مما أعلنه الرئيس الأمريكي.
وذكر الدي أن نيكسون، أعلن حينها تعويم الدولار لينزل فى السوق تحت المضاربة، وسعره يحدده العرض والطلب، ولن تكون له قيمة ثابتة كما كان سابقا، خلافا لاتفاقية "بريتون وودز" التى جعلت قيمة محددة للدولار مقابل الذهب، وبذلك أصبحت واشنطن قادرة على التلاعب بقيمة الدولار، ومن ثم التلاعب بقيمة عملات الدول الأخرى المرتبطة به، عبر تحكمها فى كمية الدولارات التى تطبعها وتطرحها فى السوق النقدية.. وقال نيكسون كلمته الشهيرة: "يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها، ويجب أن يلعبوها كما وضعناها".. وبذلك صارت أمريكا تشترى ما تريده من ثروات الشعوب دون أن تخسر شيئا، لتحقق الرفاهية للشعب الأمريكى بلا تعب ولا حروب.
والآن وبعد سنوات طويلة من "صدمة نيكسون" للعالم، حسب أبوبكر الديب يبحث عدد من دول العالم، آليات التحرر من الدولار الأمريكي، وبدأت سيطرة العملة الأمريكية كعملة احتياط رئيسية فى العالَم تهتز؛ حيث تبحث الصين وروسيا والاتحاد الأوروبى وفنزويلا والبرازيل ودول أخري، عن طرق جديدة للتخلى عَن الدولار لمصلَحة عملات أخرى كاليوان الصينى واليورو.. وحتى حلفاء الولايات المتحدة فى الغرب، بدأوا يظهرون فقدان الصبر تجاه حروبها التجارية، وعقوباتها الإقتصادية لعدد من الدول، والتى تمس مصالحهم.
وقال إن الدولار الأمريكى تعرض لخسائر حادة أمام عملات رئيسية فى العالم، خلال الأيام الماضية متوقعا، أن يعيد سيناريو 2008، حيث انهار سعره ووصل إلى أدنى مستوياته فى القرن الحادى والعشرين، بسبب الأزمة المالية وأزمة الرهن العقاري، وسجل اليورو مستوى قياسيا أمام الدولار فى مارس؛ حيث وصل إلى 1.60، فيما سجل الجنيه الإسترلينى أكثر من دولارين، وهبط الدولار دون الفرنك السويسرى لأول مرة، ووصل الدولار إلى أدنى مستوياته فى 13 عاما أمام الين، ومنذ العام 1971 انخفضت القيمة الحقيقية للدولار الأمريكى حوالى 40 مرة، ودفع تراجع الدولار قوى اقتصادية صاعدة فى مقدمتها الصين وروسيا إلى المجاهرة بالدعوة لإيجاد عملة احتياط عالمية بدلا من الدولار.
وأشار الي أنه رغم ضغوط الإدارة الأمريكية على العديد من دول العالم، لكى تشترى الدولار من الأسواق وتلتزم بمنع انهيار أسعاره، ما زال الكثير من الدول والشعوب يأمل فى التخلص منه كعملة عالمية تسهم فى نقل ثقل مشاكل وعجز اقتصاد أمريكا إلى الآخرين، وتنويع الاحتياطيات المالية بإدخال عملات مثل اليورو والين وغيرها، ورغم أن الأمر صعب الآن إلا أنه خيار يمكن تحويله إلى واقع فى المستقبل القريب أو البعيد.