تلك هي المقولة الخالدة التي أطلقها الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه، يوم أن انتدب سيف الله المسلول خالد بن الوليد من أرض العراق، التي كان يسير فيها سير السكين في الزبد الطريق، فينتقل من نصرٍ إلى نصرٍ، ويحقق إنجازاً إثر آخر، ويطوي الأرض تحت قدميه فتحاً، وتضع خيوله حوافرها حيث تصل عيون فرسانها نصراً، ويجتاز الأرض ويفتح البلاد طُراً، وتنهزم من أمامه الجيوش صاغرةً، وتخضع له الرقاب ذلاً، فهابه الفرس وهربوا، وجبنوا عن قتاله وفروا.
لكن الروم في الشام طغوا واستعلوا، وبغوا في الأرض وفسدوا، فَسَيَّرَ أبو بكر الصديق خالداً إلى الشام قائداً ومدداً، وفارساً تئن تحت وطئه الخيول هولاً، فأسكت به الروم، وأنساهم بعزمه أحلامهم، وسقاهم بسيفه المسلول المنون ألواناً، وأرغمهم على ابتلاع ألسنتهم والتراجع عن تهديداتهم، والانكفاء بعيداً عن جيوش الفتح الإسلامي، حتى غدا وجيشه يدخلون البلاد رهباً، وتفتح لهم أبوابها خوفاً، وأرسل عندما استقر به الحال واطمأن به المقام إلى أبي بكر الصديق مبشراً، فجثا على ركبته وخر لله عز وجل ساجداً، يشكره على نعمائه، وعلى النصر الذي مَنَّ به على عباده، فأعزهم بعد ذلٍ، وأغناهم بعد فقرٍ، ورفعهم بعد ضِعةٍ وهوان.
ما أشبه اليوم بالبارحة، عربٌ مستضعفون، ورومٌ مستعلون، ولا أحد يظن أنهم سينتصرون، فهم أقل عدداً وأضعف جنداً، ولا عدة عندهم ولا سلاح معهم، ولا خيل تحملهم ولا عير تكفيهم، ولا من يمدهم بالسلاح أو يساندهم بالرجال، وعدوهم بالسلاح مدجج، وبالذخيرة مُزَوَّد، وجنوده يملأون البطحاء عدداً، ويحجبون عين الشمس غباراً، ويظنون أن النصر حليفهم، وأنه قريباً من أقدامهم، وأن من جاؤوا لقتالهم بغاثاً لا يستحقون، وحملاناً لا يصمدون، وأعراباً لا يثبتون، وحفاةً لا يلبسون، فلا خوف منهم ولا قلق يساورهم، فسيوفهم إرباً ستقطعهم وفي صحراء الشام ستبددهم، أو أن بعض الطعام والكساء سيردهم، وسيعيدهم من حيث أتوا راضين بذهب يعمي عيونهم، أو ببعض مالٍ يشبع جوعهم.
لكن الذين ظنوهم ضعافاً كانوا بعقيدتهم أقوياء، والذين وصفوهم بالعراة الجياع أثبتوا لهم أنهم أشرافٌ أغنياء، والذين خالوهم مترددين ومنهم خائفين كانوا بالنصر واثقين ولهم مقتحمين، إذ تسلحوا بيقينٍ لا يهزمُ ووعدٍ لا يُخلف، فلقد سبقهم إلى النصر الموعود سراقة، وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة له بسواري كسرى، ومن قبل يوم الخندق بفتح الشام وكنوز قيصر، فما خاب ظن المسلمين، ولا ضعف بالنصر يقينهم، ولا شك أحدٌ بوعد النبي ولا ظن في بشارته خُلفاً، ويقينهم بالأمس هو يقيننا اليوم، فنحن الفلسطينيين على موعدٍ مع النصر القريب بإذن الله، مهما تأخر وتعذر، فإنه لا محالة آتٍ، فصاحب البشرى واحد، وصاحب وعد الحق في كتابه الكريم الله عز وجل الصادق الوعد العظيم.
قد أصابنا نحن الفلسطينيين العدو بنابه، وأوجعنا بحرابه، وآلمنا بسلاحه، وطغى علينا بقوته، واستقوى علينا بحلفائه، فبغى وتشدد وتطرف، وهدد ووعد وأرغى وأزبد، وقتل وأوجع وأثخن، وطغى وتجبر وتغطرس، واعتدى على الأرض والمقدسات، واستهدف بعدوانه البشر والحجر والشجر وما أبقى، وظن أنه في أرضنا سيبقى، وشعبنا سيطرد، وحلمنا سينهي، وأن أمتنا قد خبت جذوتنا كما تغنوا يوماً أن رسولنا قد مات، وأنه خلف بناتاً سبعة، لا يصنعون نصراً ولا يهزمون عدواً، لكننا بإذن الله سننتصر، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح الفلسطينيون والعرب والمسلمون.
لهذا اليوم وهذا الوعد فإننا في حاجةٍ إلى الاثنين معاً، إلى أبي بكرٍ الصديق الحاكم الشجاع، المخلص الصادق، المسؤول الأمين، الجريء الواثق الذي لا يخاف، الحكيم الذي يحسن الاختيار، الحازم الذي لا يتردد في القرار، بعيد النظر ثاقب البصيرة، الزاهد في الدنيا والمقبل على الآخرة، المعطاء من حر ماله والسخي حتى على من أساء إليه وآذاه.
كما أننا في حاجةٍ إلى خالد جديدٍ، وقائدٍ عظيمٍ، ومقاومٍ عنيدٍ، صادقٍ صابرٍ، بصيرٍ عالمٍ، عزيزٍ أبيٍ، قويٍ صلبٍ، صارمٍ قاطعٍ، واثقٍ مطمئنٍ، رحيمٍ بنا شديدٍ على عدونا، همه الوطن وشغله المقاومة، وعينه على النصر وقلبه على الوطن، يتطلع إلى الشهادة وتأبى نفسه الريادة، ينسي العدو الصهيوني بسيفه المسلول وساوسه الخبيثة باحتلال أرضنا والاستيطان فيه، وطرد أهلنا واستباحة محرماتنا، وتدنيس مقدساتنا، يقاتله بإصرار ويقاومه بعناد، ويصر على انتزاع النصر منه مهما كلفه وأتعبه، وناء به ونأى عنه، فهذه أمنية الشعب وغاية الأمة، تدفع دونها الأرواح والمهج، وتضحي في سبيلها بالغالي والنفيس.