في وقت تتركز فيه الجهود الأممية على تمديد الهدنة اليمنية وتوسيعها حتى تصل إلى وقف دائم للحرب، جاء تزحزح للموقف الأميركي من قضية الجنوب العربي عبر تصريح لافت للمبعوث الخاص للرئيس جو بايدن السيد تيموثي ليندركينغ، لصحيفة «إندبندنت» فقد جاء تعليقه عن الموقف الأميركي بشأن انفصال الجنوب: «نعتقد أنّ اليمنيين يجب أن يتخذوا قراراتهم الخاصة في شأن مستقبلهم بما في ذلك هذه القضية».
فمن العام 1994 الذي شهد ضم الشمال اليمني للجنوب بقوة السلاح لم يتزحزح الموقف الأميركي وظل في توازنات حافظت على سياقات محددة حتى ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وهي التي أطلقت بعدها الولايات المتحدة عمليات مطاردة لعناصر تنظيم «القاعدة» في اليمن عبر استهدافهم بالطائرات، وكذلك قيام قوات المارينز بعمليات خاصة في محافظتي مأرب والبيضاء ومع كل هذه السنوات حتى ما بعد سقوط نظام علي عبدالله صالح وبروز «الحوثيين» كقوى تمتلك السلاح وتهدد الأمن الإقليمي والدولي ورغماً عن كل التحولات الكبيرة في المشهد اليمني تمسكت واشنطن بموقفها من القضية الجنوبية حتى هذا التوقيت الذي يتطلع فيه اليمن لنجاح توسيع الهدنة والانتقال لعملية التسوية السياسية. حتى نعي تماماً سياق التحول الأميركي، وإن كان يبدو يسيراً فلا بد من العودة إلى نقطة الارتكاز، التي نشأت عليها القضية أساساً.
فالجنوب الذي كان واحداً من الدول المحسوبة على معسكر الاتحاد السوفييتي، كان من الدول التي تأثرت بسقوط برلين 1989، بل كان الجنوب المؤشر على نهاية الحرب الباردة وبداية النظام العالمي أحادي القطبية، فلقد استفردت الولايات المتحدة بالسياسة الدولية من ذلك الوقت.
واشنطن كانت ترى في الجنوب أنه آخر معاقل الشيوعية، ولذلك تعاملت مع غزو الشمال للجنوب بذات النظرة للحرب الأفغانية، فلم تر غضاضة في مشاركة الأفغان العرب في تلك الحرب.
على امتداد ثلاثة عقود وظفت القوى القبلية اليمنية الشمالية الحرب على الإرهاب بالطريقة التي تناسبها، ففيما كان نظام علي عبدالله صالح يمارس الابتزاز بورقة الإرهاب، كانت تلك القوى تبرم العقود والصفقات مع الشركات العالمية لبيع النفط والغاز وكل الموارد الاقتصادية، وظلت السياقات لم تتغير حتى برزت جهود مكافحة الإرهاب من بعد تحرير عدن من قبضة «الحوثيين» وشريكهم علي صالح في أكتوبر 2015. فمن بعدها أظهرت المقاومة الجنوبية والقوات المسلحة الإماراتية قدرات ملموسة في تطهير المحافظات الجنوبية من عناصر تنظيمات «داعش» و«القاعدة» و«أنصار الشريعة».
بالتوازي مع جهود مكافحة الإرهاب، أظهر«المجلس الانتقالي الجنوبي»، وهو الرافعة السياسية للقضية الجنوبية كثيراً من الالتزام السياسي توج بتوقيع اتفاق الرياض، ومنه حظي المجلس بالاعتراف الإقليمي والدولي، ما أفضت إليه مشاورات الرياض من تغيرات أدت إلى هدنة، وإنْ كانت هشة إلا أنها منحت المنطقة والمجتمع الدولي فرصة لتدوير القضية اليمنية من زوايا متعددة أظهرت مدى التزامات الأطراف السياسية المتشاكسة في شراكاتها والمتصارعة فيما بينها لكنها كانت غاية في اختبار مستقبل التسوية أو التسويات لمستقبل اليمن جنوباً وشمالاً. في نهاية الحرب الباردة الأولى سقطت عدن وتفككت يوغسلافيا.
ومع بدايات الحرب الباردة الثانية، تبدو المسارات كذلك تعطي إشارات لتحولات مختلفة تعتمد على توفير مصادر الطاقة والغذاء. الجنوب يبدو مهيأً لإفرازات ميلاد النظام العالمي متعدد الأقطاب، ويبدو تزحزح الموقف الأميركي أكثر من مجرد إشارة لما تريده واشنطن من هذا الجزء من العالم، بينما سيبدو للدب الروسي رأي آخر.
فلطالما مدد أرجله في المياه الدافئة في سنوات الاتحاد السوفييتي، فهل سيترك الرئيس بوتن الإرث القديم للسطوة الأميركية، أو سيكون له رأي آخر؟ المشهد في جنوب الجزيرة العربية مفتوح على كثير من الاحتمالات، لكن هناك حقيقة واحدة أن قضية شعب الجنوب العربي باتت أمام فرصة الاستقلال والخلاص من الاستبداد.