صورة تعبيرية لمعركة ملاذكرد - صحيفة يني شفق التركية
في سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها انتصر السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) على الإمبراطور البيزنطي (رومانوس الرابع) وأسره في موقعة (ملاذكرد) عام 1071م، ثم سرعان ما تقدم السلاجقة بعد انتصارهم هذا واستولوا على مساحات شاسعة من الأناضول، وأصبح وصولهم للقسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية مسألة وقت لا أكثر، وأمام الواقع الجديد التي فرضته معركة (ملاذكرد)، استغاثت الدولة البيزنطية بجيرانها الأوروبيين البابا في روما، بزعم أن السلاجقة سوف يغزون أوروبا في حال سقوط القسطنطينية، فاقتنع البابا (أوربان الثاني) بمزاعم البيزنطيين.
لذلك في 27 نوفمبر 1095م ألقى البابا (أوربان الثاني) خطباً تحريضية في مدينة مونت الفرنسية وعدد من المدن الأوروبية، وطالب فيها نصارى أوروبا بوجوب العمل على استرداد بيت المقدس من المسلمين، ووعد من يشارك في حملات استرداد بيت المقدس بالغفران من الذنوب إن ماتوا في ساحة القتال.
بناءً على نداءات البابا انطلقت أولى الحملات الصليبية عام 1096م، بمشاركة واسعة من فرسان وأمراء وملوك أوروبا، وبلغ عدد الجيوش الصليبية عند وصولها للأراضي البيزنطية 600 ألف مقاتل من ضمنهم 100 ألف فارس صليبي.
بعد أن قضى صليبيو الحملة الأولى في العاصمة البيزنطية عدداً من الأسابيع، تحركوا نحو دولة سلاجقة الروم في وسط الأناضول، وضربوا حصاراً على مدينة (نيقية) عاصمة الأمير السلجوقي قلج أرسلان وقتها، فصمدت المدينة عشرين يوماً إلا أنها سرعان ما تهاوت وسقطت أمام جحافل الصليبيين الهائلة في 26 من يونيو 1097م.
تابعت الحملة الصليبية تقدمها حتى وصلت إلى مدينة أنطاكية، ففرضت عليها حصاراً في أكتوبر عام 1097م لمدة تسعة أشهر، أظهر خلالها حاكم المدينة (ياغي سيان) ومن معه الشجاعة الفائقة وتحملوا الحصار المفروض عليهم، وكبدوا الصليبيون خسائر كثيرة.
خيانة الأفضل شاهنشاه
أثناء حصار أنطاكية كان موقف الفاطميين في مصر مريباً غامضاً مثيراً للشكوك والدهشة، ولكن سرعان ما بدأت الأمور تتكشف، إذ إن الوزير الفاطمي "الأفضل شاهنشاه" عندما رأى اشتباك الصليبيين مع السلاجقة، قرر أن يعمل ضد السلاجقة لا ضد الصليبيين بعقد تحالف مع الصليبيين بحكم اشتراكهم في العداء لدولة السلاجقة.
وتفيد بعض المصادر بأن الوزير الفاطمي شاهنشاه عندما رأى حصار أنطاكية قد طال، تخوف من أن يتسرب الضعف والملل إلى نفوس الصليبيين، فسارع الأفضل بإرسال سفارة دبلوماسية محملة بالهدايا والنفائس إلى الصليبيين الذين يحاصرون أنطاكية، وطلب من قادة الصليبيين الاستمرار في الحصار، وأكد لهم أنه سيساعدهم بالإمدادات العسكرية والمواد الغذائية، وكلّف سفراء بالعمل على كسب قلوب قادة الصليبيين.
لم يكتفِ الوزير الأفضل بذلك بل عقد معهم اتفاقية تضمنت ما يلي:
1. أن يقدم الوزير الأفضل المساعدة بالجند والذخيرة للصليبيين المحاصرين لأنطاكية مقابل استمرار الصليبيين بحصارهم حتى ينتزعوها من السلاجقة.
2. أن ينفرد الصليبيون بحكم أنطاكية وشمال بلاد الشام.
3. أن تحتفظ مصر (الدولة الفاطمية) ببيت المقدس وجنوب بلاد الشام.
4. يسمح للصليبيين بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وتكون لهم الحرية الكاملة في أداء شعائرهم الدينية، على ألا تزيد مدة إقامتهم فيها على شهر واحد، وألا يدخلوها بسيوفهم.
5. أن يكون هناك تعاون مشترك بين الصليبيين والفاطميين للقضاء على دولة السلاجقة في بلاد الشام.
وبعد أن مكث الوفد الفاطمي عدة أسابيع في المعسكر الصليبي المحاصر لأنطاكية عادوا بعدها إلى مصر تتقدمهم سفارة صليبية تحمل الهدايا الثمينة، للتباحث مع الوزير الأفضل في الأمور التي اتفقوا عليها، ومن الأمور اللافتة أن السفارة الفاطمية قبل إبحارها إلى مصر، أرسل معهم الصليبيون حمولة أربعة جياد من رؤوس القتلى السلاجقة هدية للخليفة الفاطمي ووزيره، فأبدى أفراد السفارة سرورهم البالغ لذلك المشهد.
وعندما أيقن الوزير الفاطمي الأفضل أن السلاجقة في الشام مشغولين برفع الحصار عن أنطاكية، جرَّد حملة عسكرية في يوليو عام 1098م وتحرك على رأس جيوشه إلى بيت المقدس وضرب حوله الحصار لمدة أربعين يوماً، وفي النهاية تمكن من الاستيلاء على بيت المقدس، ثم تقدم نحو بلاد الشام فاستولى على عدد من المدن المهمة كمدينة صور وعكا ويافا.
أما بالنسبة لمدينة أنطاكية التي بقيت صامدة تسع أشهر فسرعان ما سقطت بيد الصليبيين عام 1098م، بعد خيانة أحد حراس أحد الأبراج المدينة وهو (فيروز الأرمني)، الذي تفاوض سراً مع الصليبيين وساعدهم في دخول أنطاكية، وهكذا استطاع الصليبيون دخول المدينة فنهبوا وقتلوا أعداداً كثيرة من المسلمين، وقتل (ياغي سيان) على يد أحد الأرمن وأرسل رأسه إلى بوهيموند أحد ملوك الصليبيين.
خيانة الصليبيين
بعد سقوط أنطاكية بيد الصليبيين تحركت القوات الصليبية عام 1098م نحو مدينة بيت المقدس مدفوعين بنشوة انتصاراتهم غير مبالين بما اتفقوا عليه مع الوزير الأفضل الذي أفاق من سكرته، ووجد أنه سيكون وجهاً لوجه أمام أصدقاء الأمس، وأعداء اليوم، ولا مناص من الصدام.
لذا قام الأفضل بإرسال سفارة إلى الصليبيين عند وصولهم لطرابلس عام 1099م تحمل الهدايا النفيسة والأموال الكثيرة لكل واحد من زعمائهم، وقد عرضت السفارة مشروعاً على الصليبيين يتضمن أن يمتنع الصليبيون عن دخول بيت المقدس على أن يتعهد الفاطميون بالسماح للحجاج المسيحيين بالوصول إلى الأماكن المقدسة في شكل مجموعات صغيرة تتراوح ما بين 200 و300، إلا أن الصليبيين رفضوا الاقتراح وردّوا على السفارة الفاطمية بأنهم سيتمكنون من الحج لبيت المقدس بدون أخذ الإذن من الخليفة الفاطمي.
وأمام تعنت الصليبيين وتقدمهم نحو بيت المقدس أصدر الأفضل أوامره إلى (افتخار الدولة) حاكم بيت المقدس بالاستعداد لمواجهة الصليبيين، فسمم آبار المياه وقطع موارد المياه، وطرد جميع من بالمدينة من المسيحيين لشعوره بخطورة وجودهم أثناء الهجوم الصليبي وتعاطفهم معهم، وقوى استحكامات المدينة.
وصلت القوات الصليبية إلى أسوار بيت المقدس في مايو عام 1099م وفرضت عليها حصاراً لمدة أربعين يوماً، لم تتمكن أثناءها الإمدادات الفاطمية من الوصول إلى الحامية في المدينة، وفي 23 شعبان عام 492هـ /15 يوليو 1099م، استطاع الصليبيون اقتحام بيت المقدس، وارتكبوا مذبحة مروّعة قتلوا فيها سبعين ألفاً من المسلمين، وأثناء الاقتحام استبسل افتخار الدولة مع طائفة من الجند في الدفاع عن المدينة، وقاتلوا ثلاثة أيام بمحراب داود، لكنهم لم يلبثوا أن ألقوا السلاح بعد أن تعهد لهم الصليبيون بالأمان، ثم أطلقوا سراحهم، وسمحوا لهم بالخروج إلى عسقلان، فكان افتخار الدولة وجنده هم الفئة الوحيدة من مسلمي بيت المقدس التي نجت من وحشية الصليبيين في بيت المقدس.
مقتل الأفضل شاهنشاه
أما عن نهاية الوزير الفاطمي الأفضل فقد تعرض لعملية اغتيال في عيد الأضحى عام 1121م، وقيل إن الحشاشين هم من قتلوه، وذهب فريق من المؤرخين إلى أن اغتياله جاء بناءً على أوامر الخليفة الآمر بأحكام الله، الذي خلف المستعلي بالله عام 1101م بسبب استيائه من انفراد الوزير الأفضل بمقاليد الحكم في مصر.