صور مفترضة للشريف بوبغلة ولالة فاطمة نسومر يقودان الجيش الثوري
في عام 1830، بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر عبر شنّ باريس هجماتها على ميناء طولون، بمشاركة 37 ألف جندي. ومع حلول 14 يونيو/حزيران 1830، تمكنت الحملة الفرنسية من الوصول إلى منطقة سيدي فرج، وأحكمت قبضتها على البلاد.
دام الاحتلال طويلاً، حتى صار استعماراً، وكان أحد أكثر الاستعمارات بشاعةً ووحشيةً عبر التاريخ الحديث. وخلال أكثر من 132 عاماً (منذ عام 1830 حتى عام 1962)، قدّم أبناء الجزائر أرواحهم فداءً لتحرير وطنهم، حتى صار اسمه "بلد المليون شهيد".
في إطار هذا النضال طويل الأمد، شهدت الخريطة الجزائرية حراكاً واسعاً ومنظماً عرف أبطالاً وبطلاتٍ عدة.
لم يقتصر دور النساء في الجزائر على تربية وتوعية الأولاد على أهمية ثقافتهم وكيفية القضاء على المُستعمِر، بل امتدّ إلى ساحات القتال حيث شاركت النساء في المقاومة المسلّحة ضدّ العدو الفرنسي.
كانت بطلة قصتنا، لالة فاطمة نسومر، من بين تلك النسوة؛ عُرفت بتضحيتها وفدائها، كما أنها كانت رمزاً للمرأة الجزائرية، التي لم تنخرط في الحرب ضدّ المُستعمِر فقط، بل كانت أحد القادة الذين ينظمون الصفوف أيضاً.
من ورجة إلى سومر.. هكذا تشكلت شخصية لالة فاطمة نسومر
تبدأ قصتنا في بيت أحد مشايخ الصوفية الجزائريين في قرية ورجة، سيدي محمد بن عيسى، شيخ الطريقة الرحمانية في شمال شرق الجزائر. كان بن عيسى يحظى بمكانةٍ مرموقة وسط العامة، الذين كانوا يقصدون منزله دائماً للمشورة.
وفي العام الذي دخلت فيه القوات الفرنسية إلى الجزائر، أي 1830، وُلدت فاطمة نسومر لـ5 إخوة وأختين، أبناء للشيخ محمد.
يُقال إن فاطمة كانت بارعة الجمال، قوية الشخصية، متوسطة الطول، وشعرها قمحي كثيف تتباهى بإسداله على كتفيها، فيصل إلى خصرها. عيناها زرقاوان، وكانت تتميز بالذكاء إلى جانب الطيبة والهدوء اللذين يمتاز بهما سكان الجبال بأعالي جرجرة.
لم تحظ بمزاولة الدراسة المتوفرة وقتئذٍ، والتي كانت تقتصر على الذكور دون الإناث، لكنها ومع ذلك حفظت القرآن من خلال استراق السمع إلى إخوتها وتلاميذ والدها من خلف الباب.
كانت مولعة بلباسها التقليدي، المتمثل في الجبة والخمار والفوطة، وكانت تفضّل اللون الأحمر الذي أصبح يمثل عندها فيما بعد رمزاً للفداء والتضحية.
لاحقاً عندما كبرت فاطمة نسومر، تقدّم إليها العديد من أشراف القبائل وذوي الجاه والنفوذ، إلا أنها كانت عازفة عن الزواج. رغم ذلك، وبعد وفاة والدها وانتقال رعايتها إلى أخيها الأكبر سي الطيب، أُجبرت فاطمة على الزواج. فما كان منها إلا أن تظاهرت بالجنون، وهو ما لم يجعل هذا الزواج يستمر.
ففي ليلة زفافها تظاهرت بالجنون؛ مزّقت ثيابها وخدشت وجهها، وكسرت بعض الأواني المنزلية، فأرجعها زوجها إلى بيت أهلها، ورفض أن يطلّقها إلى حين وفاتها، فبقيت في عصمته طوال حياتها.
ولما صارت حديث الناس في القرية، انتقلت إلى بيت أخيها "سي الطاهر" في قرية سومر، وإليها نُسب اسمها "فاطمة نسومر". كان أخوها ملمّاً بمختلف العلوم الدينية والدنيوية، رافقته وتعلّمت منه كثيراً حتى لازمته.
وهناك تفرغت لحياة العبادة والعلم، ومساعدة أخيها في خدمة المدرسة القرآنية، التي كان يُشرف عليها. وفي فترةٍ وجيزة استطاعت أن تجعل من تلك المدرسة مركزاً مشعاً للعلوم الشرعية.
بجانب ذلك، تبحّرت فاطمة في علوم الدين، ووجدت نفسها في التصوّف. وبعد أن اتخذت لها "خلوة"، وهي حجرة منعزلة يخلو فيها المرء بنفسه مدة معينة للتعمق في التفكير والتأمل والعبادة، خرجت لتجد أن زوارها يتكاثرون يوماً بعد يوم، حتى كاد نشاطها يطغى على نشاط أخيها.
بوبغلة يتقدّم للزواج من لالة فاطمة نسومر
في سومر، ذاع صيت فاطمة كثيراً بعد "الخلوة"، وبدأت في نشر العلم على الرجال والنساء.. ما جعلها تكوّن رابطاً بينها وبين عددٍ كبير من الناس، حتى أصبح هناك من يسافر إليها خصيصاً -من مدنٍ أخرى- لمقابلتها والاستفادة من علمها.
ومع خفوت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، رأس المقاومة في الجزائر، أرادت فاطمة أن تساعد الرجال في معاركهم وتُلهب روح المقاومة من جديد في شمال شرق الجزائر.
وكنوع من التقدير لـ"السيدة فاطمة"، أصبح الناس يُطلقون عليها اسم لالة فاطمة نسومر؛ وكلمة "لالة" تُستخدم في اللغة الأمازيغية لتقدير النساء.
لنشر التوعية بين الناس، كانت لالة فاطمة نسومر تخاطب أتباعها -خاصة من النساء- بضرورة الدفاع عن أراضيهم ضدّ المدّ الفرنسي الذي استحوذ على كامل شمال الجزائر، وكانت تتابع أخبار البلاد القادمة من كافة الأرجاء حول وضع المقاومة.
كانت لالة فاطمة نسومر تشارك الرجال في المعارك وهي لا تزال في الـ23 عاماً. وكان لها دورٌ كبير في تلك المعارك حتى صارت أحد قادة المقاومة مع بوبغلة، أحد قادة المقاومة في شمال الجزائر، والتي أُطلقت "ثورة بوبغلة" على اسمه.
وفي 1854 استطاع المارشال الفرنسي جاك لوي راندون (حاكم الجزائر) الوصول إلى قلب منطقة جرجرة، وهي منطقة وعرة بها سلسلة جبال محاذية للبحر المتوسط. لم يستطع الفرنسيون دخول جرجرة من قبل، وكان ذلك بمثابة خيبةٍ كبيرة لدى الجزائريين، ما مهّد لاشتعال الأوضاع من جديد.
كان راندون يرى أن احتلال الجزائر سيظلّ ناقصاً من دون الدخول إلى جرجرة؛ ومن أجل ذلك، استعان في حملته على جرجرة بعددٍ كبيرٍ من الجنود يقوده عدداً كبيراً من الجنرالات. وفي هذه الحملة اشتدّ التضييق على بوبغلة وتمّت مطاردته، فأوكل بوبغلة قيادة المقاومة إلى سي الطاهر، الأخ الأكبر للالة فاطمة.
بسبب الدور الهام الذي لعبته في قيادة النساء على أرض المعركة، أُعجب بوبغلة بشخصية فاطمة نسومر وأراد الزواج منها. فطلبها من أخيها، إلا أنه رفض. وبعد شهر من المعارك بين راندون وبوبغلة، انسحبت القوات الفرنسية من جرجرة بعد أن تكبّدت خسائر كبيرة على يد المقاومة.
"معركة تاشكيرت" وقيادة لالة فاطمة نسومر
بعد المعركة، وبينما كان بوبغلة يتنقل بين مدن وقرى جرجرة ومعه 60 من جنوده، خرج عليه بعض خصومه الجزائريين وقتلوه -إلا أن المصادر التاريخية لم تذكر تفاصيل استشهاده- فانتقلت القيادة من بعده إلى لالة فاطمة نسومر والحاج عمر (أحد قادة المقاومين)، واللذان خاضا عدداً من المعارك ضدّ الاستعمار الفرنسية في بوغني وذراع الميزان وغيرهما.
في غضون ذلك أخذ راندون يُعِدّ لجولة جديدة، فتمركز في منطقة تدعى آيت يحيى للتجهيز قبل الانقضاض على تاشكيرت، معقل لالة فاطمة. وفي 17 يونيو/حزيران 1854 بدأت المعركة تحت قيادة لالة فاطمة، بعد أن عملت على تدريب النساء من أجل القتال جنباً إلى جنب مع الرجال، إضافةً إلى تقديم الزاد والعتاد الحربي وتضميد الجرحى.
دخلت فاطمة نسومر بنفسها في صفوف المقاتلين مما أشعل حماسهم وألهب القتال، وحُسم القتال في غضون يومين من بدء المعركة، حيث تكبّد الفرنسيون خسائر كبيرة. فإضافةً إلى موت أعداد كبيرة منهم، وجرح كثيرين غيرهم، فشلت القوات الفرنسية في معركة تاشكيرت وانسحب راندون وجنوده.
معركة اشريضن" واعتقال قيادات المقاومة"
في العام 1857، هاجم راندون منطقة الأربعاء نايت إيراثن، مما جعل المقاومة في تلك المنطقة تنسحب إلى خطوط اشريضن الدفاعية. جمعت لالة فاطمة المقاتلين وألقت عليهم خطاباً حماسياً وأعلنت النفير العام، فتطوع الأهالي للدفاع عن بلادهم.
وفي 11 يوليو/تموز، هاجمت لالة فاطمة مركز العدو بمنطقة الأربعاء وقطعت عليهم طريق المواصلات، فانضمّ إليها العديد من المتطوعين من أهالي القرى المحيطة. أثناء المعركة انضم إلى راندون فيالق أخرى من الجيش الفرنسي، مما رجح كفة القوات الفرنسية. في المقابل، أظهر المقاتلين الجزائريين بسالة وشجاعة كبرى مما جعل لالة فاطمة نسومر تتوصل إلى عقد مفاوضات مع راندون.
جلس على طاولة المفاوضات كل من المارشال راندون، وعن الجانب الجزائري كان هناك سي الطاهر ومعه خمسة من القادة الجزائريين، بينما كانت لالة فاطمة تنتظر نتائج مفاوضاتهم في ملجأها.
على إثر ذلك اتفق الطرفان على أن تنتقل القوات الفرنسية خارج القرى والتجمعات السكنية، وعدم دفع الضرائب من قبل الجزائريين، مقابل إخماد الثورة في الشمال الشرقي من الجزائر دون متابعة ومعاقبة قادة الثورة، والتزام القوات الفرنسية بحماية الأشخاص والممتلكات.
ورغم اتفاق الطرفان إلا أن راندون أمر بإلقاء القبض على الوفد الجزائري فور خروجه من المعسكر، كما أرسل الجنود إلى ملجأ فاطمة نسومر لاعتقالها هي ومعاونيها النساء، وفي تلك الأثناء قاموا بتدمير مكتبتها الغنية بالكتب الدينية والعلمية.
سرعان ما ارتحل الجيش الفرنسي بالأسرى -5 رجال كوّنوا الوفد الجزائري و25 من النساء المقربات من لالة نسومر- وبسبب خوف الموكب الفرنسي من الهجوم على مقر احتجاز فاطمة لتحريرها، نقلوا الأسرى إلى مدينة يسر، التي قضوا فيها 49 يوماً، ظلّت فيها فاطمة في عزلة تامة.
ومن مدينة يسر نقل الفرنسيون الأسرى إلى بلدية تابلاط تحت حراسة مشددة، فقضت لالة نسومر 6 سنوات بعدها في تفرّغٍ تام للعبادة والتأمل، مع اهتمامها الكبير بسماع أخبار المقاومة بالخارج. كما سُمح للجزائريين زيارة لالة فاطمة، فكانوا يأخذون بنصحها وإرشاداتها.
في المقابل، منحت السلطات الفرنسية للالة فاطمة نسومر لقب "جان دارك جرجرة"، إلا أن أنها رفضت اللقب مفضّلة تسمية نفسها بـ"خولة جرجرة"، نسبة إلى "خولة بنت الأزور" -الصحابية التي كانت تتنكر في زي المحاربين، وتقف وسط المجاهدين، مقاتلة بكل شجاعة وبسالة-.
في العام 1861، وبينما كان سي الطاهر حبيساً في سجنه، أصابته حمى شديدة مات على إثرها. وبعد سنةٍ من وفاته، أُصيبت لالة فاطمة بمرضٍ تسبّب في شلل ذراعها الأيسر، وامتدّ الشلل إلى كامل جسدها حتى أصبحت عاجزة عن الحركة كلياً. وفي سبتمبر/أيلول 1863، توفيت لالة فاطمة نسومر عن عمر 33 عاماً فقط.
دُفنت في مقبرة سيدي عبد الله، غير البعيدة عن إقامتها؛ وفي عهد الاستقلال، نُقلت رفاتها إلى مدينة الجزائر، ودُفنت في مقبرة العالية بمربع الشهداء. من أشهر أقوالها: "الحرية زهرة نادرة تطلبها كل الشعوب، ولكنها لا تترعرع إلا عند الذين يسقونها بالدماء".