لم تكن الصين أبداً بعيدة عن تاريخ جيلنا الذي عاش تجارب تاريخية متنوعة بدأت بذكريات المرحلة الليبرالية في التاريخ العربي والتي اختلطت فيها الملكية مع الاحتلال والنضال في حزمة واحدة؛ ثم تلتها وقائع المرحلة القومية التي امتزجت فيها الجمهورية مع الوحدة مع المواجهة مع الاستعمار وإسرائيل؛ وفي مرحلة من المراحل بدا كما لو أن تنويعات مختلفة من الفلسفات الاشتراكية قد حلت في العقل والتنظير السياسي.
هنا تحديداً وردت الصين كشخصية دولية معتبرة لأنها أولاً دولة مناهضة للاستعمار؛ وثانياً لأنها كانت مؤيدة للحقوق الفلسطينية، وثالثاً لأنها كانت تمثل الجانب المجدد في النظرية الماركسية حيث كان «لينين» يرى في الطبقة العاملة قيادة المسيرة الإنسانية نحو التحرر والتقدم، أما «ماوتسي تونغ» فقد أدخل الفلاحين في المقدمة الطليعية. كان معرض الكتاب في القاهرة يحتوي دائماً خلال الستينات من القرن الماضي على جناح صيني ممتلئ حتى الحافة بكتابات «ماو» وفي مقدمتها «الكتاب الأحمر» الذي كان فيه الكثير من أقواله وحكمته. العالم بعد ذلك تغير كثيراً، ومعه كانت الصين تتغير بطريقة أسرع، وعندما انتهت الحرب الباردة في العالم ومعها الاتحاد السوفياتي، فإن الصين التي استمرت على نهجها بدت أكثر قدرة علي التعامل مع العواصف والأنواء التي ولدتها «العولمة» من زميلتها، وأحياناً حليفتها، الاشتراكية السابقة في موسكو.
لم تكن بكين تحتاج كثيراً إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب لكي تأخذ مكانة الدولة العظمى الأخرى في العالم، فقد كانت بازغة ظاهرة على الساحة العالمية بتقدمها الاقتصادي، ومركزيتها في سلاسل التوريد العالمية، ومشروعها الدولي «الحزام والطريق»، وارتفاع كعبها المتزايد في الإبداع التكنولوجي بما فيها تكنولوجيا الفضاء. وعندما هبت رياح عاصفة الـ«كورونا» دخلتها الصين متهمة من قبل واشنطن، وعندما بلغ التوتر بين واشنطن وبكين مبلغه، وتصاعد حتى بات مشروعاً الحديث عن «حرب باردة» جديدة؛ فكان الجديد هذه المرة أن بكين قد حلت محل موسكو في المعادلة الدولية الكبرى، ولكن خصائص الحرب الباردة التي عرفناها من قبل من سباق للتسلح والحرب بالوكالة لم تكن موجودة.
في بداية الشهر الجاري كانت الصين تحتفل بمرور عام على إنشاء الحزب الشيوعي، وكان في الأمر تذكرة بأنه من الناحية الرسمية علي الأقل فإن الصين دولة شيوعية مهما تكرر القول بأنها «اشتراكية» بمذاق صيني، أو أنها دولة تقوم على «اقتصاد السوق الاجتماعي». وفي الحقيقة فإن الصين لا تحمل القانون الذي حمله الرومان، ولا الليبرالية والرأسمالية التي حملها الأنغلو ساكسون، ولا الاشتراكية التي حملها السوفيات، الصين تريد أن تكون في آن واحد «المملكة الوسطى» التي يأتي لها العالم بحثاً عن الصناعات الوسيطة والمتقدمة، بينما هي لا تتوسع إلا من خلال جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي لا يعرف أحد كيف يقنن السيادة عليها في إطار القانون الدولي. كيف وصلت الصين إلى ذلك، تلك هي المسألة والعقدة والتي تحتاج قدراً من التفكير ليس فقط من جانب الصين التي احتفلت؛ ومن العالم الذي شاهد. وربما كان ذلك سبباً في تلك الحيرة التي انتابت الولايات المتحدة مع ولاية بايدن والتي ذكرت في «دليل استراتيجية الأمن القومي الأميركي الانتقالية» ضرورة التأكيد على أن «الصين هي المنافس الوحيد القادر الذي لديه القدرة المحتملة لكي يجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لكي يشكل تحدياً مستداماً لنظام دولي مفتوح ومستقر».
من ناحية التقاليد العالمية التاريخية فإن الصين الشيوعية خرجت إلى الوجود وقد اقتطع منها: تايوان، وهونغ كونغ، ومكاو. كانت هذه «أراضي» مغتصبة بالتعبيرات الشرق أوسطية لم تتنازل عنها الصين، ولكنها حتى في عهد «ماو تسي تونغ» لم تدخل الصين حرباً بشأنها. ومنذ عام ومع قيادة «دينغ هيتساو بينغ» دخلت الصين في مرحلة من «الكمون الاستراتيجي» جوهرها الأولوية المطلقة لعملية البناء الداخلي، وحرص الزعماء في الدولة الصينية على مقاومة أمرين: أولهما أن الصين دولة متقدمة، فكان الإصرار على أنها دولة من دول العالم الثالث الفقيرة التي ينبغي معاملتها في المحافل الاقتصادية الدولية على هذا الأساس؛ وثانيهما أن الصين لا تسعى إلى مكانة القوة العظمى؛ ورغم مشاكلها الإقليمية فإنها تسعى، وبكرم، لحلها بالطرق السلمية كما فعلت مع قضايا هونغ كونغ ومكاو وتايوان ومشكلات الحدود والنزاعات على الجزر. قبلت الصين أن تقوم دولة صينية بنظامين واحد منها يقوم على حكم الحزب الشيوعي، والآخر على الديمقراطية الغربية. وحتى وقت قريب كان من النادر في الصين الحديث لا عن الدور الإقليمي للصين، ولا عن الدور العالمي؛ ولا تستخدم الصين حق «الفيتو» وإنما تمتنع عن التصويت في مجلس الأمن إلا في القضايا التي لا تهم الصين مباشرة. وفي كل الأحوال استفادت الصين كثيراً من حجمها السكاني الكبير حيث كانت تعامل في نظم التجارة الدولية معاملة الدول الفقيرة في العالم الثالث، وأكثر من ذلك كانت تحصل، وفي المتوسط، على قرابة من رؤوس الأموال الغربية المستثمرة في الدول النامية كلها.
لاحظ هنا أن الولايات المتحدة لخصت العلاقة في كونها «منافسة» يكون فيها التنافس حول القدرة في مجالات بعينها، هي ليست «صراعاً»، ولا «تنازعاً»، وإنما هي سباق ربما كان من نوع جديد، ولكنه في كل الأحوال تتوقف نتيجته على الأكثر لياقة وقدرة وإبداعاً. الصين من ناحيتها تحاول أن تكون عملياً مع استمرار النظام القائم الذي تستفيد منه الصين، فلا صراع هناك ولا مواجهة وإنما «احترام متبادل، والتعاون الذي يحقق الفوز للطرفين أو Win Win Cooperation. ولكن على الجانب الآخر فإن تقريراً للحزب الشيوعي الصيني يسجل قلقاً تجاه موجة الولايات المتحدة القائمة علي الفكرة الليبرالية وحقوق الإنسان؛ وفيها فإن الصين ترى أن «الولايات المتحدة هي أعظم تحدٍّ خارجي للأمن القومي الصيني، وسيادة الصين واستقرارها الداخلي». وقبل عام عرضت شبكة «نتفليكس» العالمية فيلماً عن مسيرة الصعود الصيني خلال العقود الأربعة الماضية، وكيف تمددت المناطق الست الاقتصادية الحرة إلى بقية الصين، وكيف انتقلت الصين بمعاونة الشركات الغربية متعددة الجنسيات إلى قوة تكنولوجية صاعدة، وتنبأت أنه في عام سوف يكون الناتج المحلي الإجمالي للصين مماثلاً لذلك الأميركي. وفي الظن أن ذلك حادث الآن على الأقل إذا ما حسب الناتج على أساس القدرة الشرائية للدولار الذي يسجل أن الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز تريليون دولار مقابل للولايات المتحدة.
كارثة الـ«كورونا» ربما أثرت سلباً على السمعة الصينية من ناحية منشأ الفيروس، ولكنها من جانب آخر أثرت إيجابياً على سمعتها من حيث طريقة تناولها للجائحة. الصين كانت أول الدول المصابة، ولكنها كانت أيضاً أول من خرج منها. وبقي أنه في العالم العربي لا توجد معرفة كبيرة عن الصين، وما نعلمه هو حصاد المعرفة الغربية وبالذات الأميركية، وربما آن الأوان أن نتعلم اللغة الصينية!