التحالف الديمقراطي الجديد

الاثنين 21 يونيو 2021 7:29 م

كان المعتاد عند الحديث عن المعسكر الغربي في العلاقات الدولية هو اسم «العالم الحر»، وذلك لتميزه عن العالم «غير الحر» أو «الاستبدادي» وأحياناً «الديكتاتوري» أو «الأوتوقراطي». الأسماء والمفاهيم تعددت ولكن المحتوي كان معبراً عن المعسكر الشرقي الذي تحكمه أحزاب شيوعية بقبضة حديدية لأفراد ذاعت أوصافهم مثل ستالين في الاتحاد السوفياتي وماوتسي تونج في الصين. كان الفارق بين المعسكرين كبيراً، فذلك الحر كان حراً في بنائه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكان الآخر مقيداً في كل هذه المجالات. وعندما كتب «جورج أورويل» روايتيه «مزرعة الحيوانات» و«1984»، كان يعبر بصدق كيف كان الحال في المعسكر الآخر. ولكن العالم لم يعد كما كان في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي؛ ومع مطلع القرن الحالي فإن الاتحاد السوفياتي لم يكن قد انهار فقط ومعه دول حلف وارسو، وإنما أصبحت الصين في طليعة الدول الرأسمالية الصافية في الدنيا دون القيود المعروفة. لم يعد الاستبداد مطلقاً كما كان متصوراً، وإنما جرى اختراقه والتخفيف منه إلى حدود دنيا، بثورة المعلومات التي لم يعد ممكناً حجرها، وثورات انتقال البشر وسفر الفنون والرياضيات التي تنتقل وتمارس عالمياً على مدار الساعة. وفي المقابل فإن الحرية والديمقراطية أسفرتا عن عيوب جسيمة تبدأ من كيف يؤدي الاختلاف في الآراء أحياناً إلى انقسام مجتمعي وسياسي حاد يهدد وحدة الدولة القومية؛ وكيف تؤدي «الشعبوية» إلى أشكال من الفاشية الدينية والعقائدية بأشكال شتي. ثبت في نفس الوقت أن الرخاء والازدهار ليسا مرتبطين فقط بالعالم الحر، بعدما تبين أن العالم صار من التعقيد إلى درجة جعلت من «التكنوقراطية» حالة ماسة بكل المجتمعات سواء كانت غربية أم شرقية.
رغم كل ما تقدم فإن الرئيس الأميركي جو بايدن بدأ رحلته الأوروبية عازماً أن يعيد بعث «التحالف الديمقراطي» من جديد؛ وكأنما لا يزال حال العالم على حاله. بداية الرحلة كانت إلى «المملكة المتحدة» الحليف التاريخي للولايات المتحدة في حربين عالميتين، ومن بعدهما استمرت العلاقات الأمنية خاصة وتتعدى حالتها الوثيقة مع كل العالم الحر. كان هذا العالم الأخير يوجد في جوهره تجمُّع «أنغلو ساكسوني» مكون من البلدين ومعهما كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وبين هؤلاء توجد علاقات خاصة ترتب اجتماعات بالغة الأهمية خصوصاً بين أجهزة المخابرات والمعلومات. المقابلة مع بوريس جونسون والملكة إليزابيث الثانية تعيد، أو هكذا الأمل، للعلاقات الأطلنطية حالتها التي كانت عليها قبل عاصفة ترمب التي وضعت الأرستقراطية البريطانية التليدة في مواجهة الشعبوية الديماغوجية الأميركية السوقية. أمل بايدن هو أن تعود الأمور إلى نصابها كي تقود أميركا العالم الديمقراطي إلى تحالفه الذي يعزز جهود الإصلاح والانطلاق بعد التخلص من جائحة «كورونا»، وتعود الأيام إلى سيرتها الطيبة الأولى، وتشكل فيما بينها حائط صد منيعاً في مواجهة الصين اقتصادياً، وروسيا سياسياً وعسكرياً، وكل منهما «سيبرانياً». لحسن حظ الرئيس بايدن أن سابقيه جعلوا من التحالف الغربي مؤسسات في قاعدتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفوقها يوجد حلف الأطلنطي الدرع العسكرية للجماعة الديمقراطية، وفوقها في الهرم يوجد الاتحاد الأوروبي، وفوق القمة أو بقربها توجد مجموعة الدول السبع: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا. الدول السبع تمثل 58 من ثروة العالم البالغة 317 تريليون دولار، و46 من الناتج المحلي العالمي.
بين هذه المؤسسات كانت جولة بايدن تحت شعار «عودة الولايات المتحدة» مرة أخرى إلى مقعد القيادة؛ وأنه لم يعد هناك مجال لا للانسحاب من ألمانيا، وبالتأكيد ليس من حلف الأطلنطي، كما كان يهدد ترمب ويتوعد. وما بين هذه الدول والمؤسسات يوجد العَلَم «الديمقراطي» الذي كان ذائعاً وغالباً في مطلع القرن الحادي والعشرين؛ ولكنه بعد عقدين، فإن الحال انقلب كثيراً إلى الضفة الأخرى. ما يحاوله بايدن حقاً ليس فقط التأكيد على فكرة وآيدولوجية وجودة نظام سياسي، وإنما أن يعيد تشكيل توازنات القوى في العالم من جديد. هو يعلم أنه في النهاية وفي عالم ثلاثي الأقطاب العظمى مع الصين وروسيا، سوف يكون عليه أن يقابل الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ؛ ومعهما سوف تكون صفقة فيها توافق على المشترك وهو ليس قليلاً، ولكنه في النهاية سوف يعكس توازن القوى العالمي كما هو. معضلة بايدن الأساسية هي أن العالم لم يعد كما كان، وأن الشروخ الجارية في المعسكر «الديمقراطي» لا يمكن تجاهلها.
المسألة ليست فقط أن ألمانيا سوف تكون في القريب العاجل بدون أنجيلا ميركل، وأكثر من ذلك أن السياسة الألمانية لم تعد مركبة كما كانت، ولا الفرنسية أيضاً، بين اليمين واليسار؛ فالدفع الآن يجري في نوع جديد من اليمين الذي له علاقة واهية مع الديمقراطية. بايدن يعلم جيداً أنه ترك الولايات المتحدة ذاتها وهي فاشلة في التوحد حول مشروع للبنية الأساسية يريده الجميع، ولكن المراد مُخْتلف بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي. والفرقة ممتدة إلى قوانين الانتخابات في الولايات المختلفة التي إذا غلب فيها الديمقراطيون كانت مزيفة وغير حقيقية، وإذا غلب عليها الجمهوريون فهي مقيدة وعنصرية تستبعد ولا تشمل. البحث عن تغيرات جذرية تمنع «المماطلة» أو Filibuster في مجلس الشيوخ، أو تسعى لتغيير عدد القضاة في المحكمة الدستورية العليا، هي موضوعات تفلق النخبة السياسية الأميركية، ويوجد على حافتها ترمب ساعياً إلى تفجيرها إن لم يكن في الانتخابات النصفية التالية في 2022 فإنها سوف تكون في الانتخابات الرئاسية في 2024. الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي – بريكست – يحرم بريطانيا من المشاركة في قيادة الجماعة الأوروبية، ويحرم هذه الأخيرة من الحكمة والحصافة الإنجليزية في إدارة العالم.
بايدن لديه من الخبرة والتاريخ ما يجعله مدركاً لذلك كله، ولكنه كسياسي يعلم أنه يحتاج هذه الصورة من التحالفات التاريخية عندما يجلس في لقائه الأول مع فلاديمير بوتين الذي وصفه قاصداً بأنه قاتل. المقابلة مع «شي جينبينغ» رئيس الصين سوف يأتي دورها فيما بعد، وهي بقدر ما فيها من منافسة واختلاف، فإن بها قدراً كبيراً من الاعتماد المتبادل يصعب تجاهله. ولكن في الحالتين فإن هناك قضايا مشتركة تخص المناخ والحد من التسلح ووضع قواعد سيبرانية لعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وفي كل ذلك فإن توازنات القوى مهمة، وعندما تكون في الصالح الديمقراطي فإنها تغري وتردع. وفي زمن الانسحاب النسبي من العالم المتجسد في أفغانستان والشرق الأوسط في عمومه فإن الولايات المتحدة تحتاج تعبئة كل تحالف يمكنها الحصول عليه. ورفع راية «الديمقراطية» لا بأس به في خلق الجاذبية بين دول العالم، وإعطاء دفعة لقوى سياسية في الوسط ويسار الوسط لكي تزدهر مرة أخرى. ولا يزال في الوقت متسع داخل أميركا وخارجها، فالرجل لا يزال في فترته الأولى وهو متطلع من الآن إلى الفترة الثانية.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر