ما يسميه الفرنسيون «التشوه المهني» من حيث الترجمة الحرفية وصفه الجاحظ قبل قرون بـ«غلبة الصنعة». أي أن صاحب الصنعة يحيل كل شيء إليها ويرى كل حدث من خلالها: الطبيب والمهندس والصحافي والسياسي.
ولا أعتقد أن ثمة ما هو أدق تعبيراً عن المعنى أو المغزى من مصطلح صاحب «البيان والتبيين». لكن لست أنا من عثر عليه، برغم أن «البيان والتبيين» من الكتب التي لا تبعد كثيراً عن وسادتي.
قبل أسابيع كنت أكتب «افتتاحية الأربعاء» – لـ«النهار»، عندما وصلت إلى فقرة أريد أن أستخدم فيها مصطلح «التشوه المهني». وتوقفت. فأنا غير مقتنع بأنها الترجمة الصحيحة وإن تكن الترجمة المعتمدة والشائعة. وأخذت أفكر في بديل لها فاستخدمت «علة المهنة».
بعد أيام أيضاً، التقيت الوزير السابق ورئيس مجلس القضاء الأعلى، الأستاذ جوزيف شاوول، وهو أحد أهم المراجع القانونية في لبنان. وفي اللقاء طرحت مسألة الدقة في الترجمة وصعوبة الوصول إلى المعنى المقصود.
روى الرئيس شاوول أنه عندما كان قاضياً مبتدئاً ورد أمامه في إحدى القضايا مصطلح «التشوه المهني» ولم يكن مقتنعاً به. حمل نص الدعوى وذهب به إلى أستاذه وصديقه فؤاد أفرام البستاني، رئيس الجامعة اللبنانية، وقال له، كيف يمكن أن نعثر على ترجمة أكثر دقة؟
قال البستاني، لا داعي للبحث على الإطلاق. لقد زودنا الجاحظ الترجمة المثلى دون أن يعرف فرنسا أو الفرنسية، ومن دون أن تكون في زمانه مهن كثيرة إلا الحرف البدائية، عندما سمى هذه الميول «غلبة الصنعة».
تأمل هذا التعبير وحاول أن تعثر على ما هو أفضل. ليس من قبيل التحدي للجاحظ طبعاً، وإنما من قبيل امتحان النفس، عاش صاحبنا يقرأ ويكتب ويصغي إلى العلماء ويجادل حتى أن أمه تبرأت منه. ما من سحر أدبي إلا سحره. وخوفاً من ضياع الوقت كان ينام في دكاكين الوراقين، مكتبات ذلك الزمان.
ومع ذلك، لم يكن يؤمن بالكتب وحدها مصدراً للعلم. فلم يكن محاضرة تفوته أو نقاش أو مجلس علمي. ويذكرك هذا بالتعلم في المنازل بعد «كورونا»: هل يمكن أن يحل محل المدرسة والجامعة، وعالم الحوار بين التلامذة، والإفادة من حضور المعلم والاتصال المباشر مع المعلمين؟
قال الجاحظ ذلك مع أنه كان يحفظ الصفحة التي يقرأها من المرة الأولى، وكأنه التقط صورتها في ذهنه. هل من الممكن الآن إقامة هارفارد، أو سوربون، أو أكسفورد، أو أون لاين؟