كأنه قدرهم منذ آلاف السنوات، أو هي جبلتهم العفنة وفطرتهم الخربة، وعقلهم السقيم وفكرهم المريض، أن يرتبط تاريخهم ببقرة، يصفها لهم نبيهم وحياً من السماء ليعرفوا بها حقيقة ما خفي عنهم، فوصفها لهم نبيهم موسى عليه السلام ببساطةٍ، وقد ظن أن قومه عقلاء، يسمعون ويطيعون، ويصغون ولا يعترضون، لكنهم جادلوه بصفاقةٍ وعاندوه بقلة أدبٍ، ولسان حالهم لا يصدقه ولا يؤمن بما جاء به، فقال لهم أنها لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك، وأتبع ذلك بأنها صفراء فاقعٌ لونها تسر الناظرين، ولما ضيقوا على أنفسهم وهم يبحثون عنها، رغم أنها كانت قريبة منهم وفي متناول أيديهم، قال لهم موسى عليه السلام، إنها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلمةٌ لا شية فيها، فقالوا له الآن جئت بالحق، وكأن ما قاله لهم قبل ذلك كان باطلاً أضلهم ومشتبهاً أضناهم.
عاد بنو إسرائيل ليربطوا أنفسهم بالبقرة من جديدٍ، ولكنهم اختاروا هذه المرة من بين الأبقار عجلاً له خوارٌ، اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله عز وجل، فضلوا السبيل وأخطأوا الطريق، وخالفوا أمر نبيهم وعصوا رسوله، واتبعوا السامري الذي استخف بعقولهم وسفه أحلامهم، وصنع لهم عجلاً من ذهب لا يضر ولا ينفع، وقد غره الصوت الذي يخرج من منخريه خواراً، فطغى بمن معه على هارون عليه السلام، وأمر قومه بعبادة العجل والسجود له، فما نفعتهم عقولهم إذ عبدوا عجلاً، ولا نصحهم حكماؤهم إذ فضلوه على الحق، وخالفوا تعاليم الذي أنجاهم من الموت وأنقذهم من الرق والاستعباد.
اليوم يعود الإسرائيليون من جديدٍ بعد آلاف السنوات إلى البقرة نفسها، وإن تغير زمانها واختلف موضوعها، وكأنهم يصرون على الاقتران بها والارتباط معها إلى الأبد، إذ أقدم جيش كيانهم الذي يوصف بالقوة والقدرة والحداثة، على سرقة سبع بقراتٍ، وإجبارهم بالقوة على اجتياز الحدود اللبنانية إلى فلسطين المحتلة، وهم يرون أصحابها بالقرب منها، يقفون غير بعيدٍ من الخط الفاصل بين البلدين، فلسطين ولبنان، ولكن جنود العدو الإسرائيلي يصرون بغباء ويتمادون بسفاهةٍ ويصرون على احتجاز الأبقار السبعة، ويظنون أنفسهم قد حققوا كسباً وأنجزوا عملاً، وواجهوا المقاومة اللبنانية وانتزعوا منها فيئاً وغنيمةً.
لكن المقاومة اللبنانية التي باتت تقوى على بز العدو الإسرائيلي ومنازلته، وتستطيع صده ومنعه، وردعه ولجمه، وترغمه على احترام الاتفاقيات والالتزام بالمعادلات، تأبى أن ينال منها ولو في دابةٍ وبهيمةٍ، أو في شجرةٍ وصخرةِ، فتتصدى له إذا اجتاز الحدود بدوريةٍ أو آليةٍ، وترده بالقوة إذا غامر وعبر، وتجبره على التراجع والانكفاء، ولا تسمح له بقطع سلكٍ أو خلع شجرة، أو تسوية شارع وتعبيد طريق، بل تقف لآلياته وجرافاته، وعرباته ومدرعاته، فتردهم خائبين، وتجبرهم على التراجع صاغرين، وتضيق عليهم الخناق فلا يجدون سبيلاً غير رفع أصواتهم بالصراخ والعويل، والشكوى والنواح لدى القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، تطلب منهم كف يد حزب الله عنهم، ومنعه من الاقتراب من مواقعهم وتخويف جنودهم وتهديد أمنهم.
لم تسكت المقاومة اللبنانية عن البقرات السبعة، ولم تسلم للعدو الصهيوني بالغنيمة، ولم ترض بالهزيمة وتسكت عن الإساءة وتتقبل الإهانة، بل اعتبرت أن قضية البقرات قضية سيادة وكرامة، وأن ما قام به جنود العدو الإسرائيلي إنما هو عدوانٌ واغتصابٌ، وجريمةٌ وإساءة، لا يمكن السكوت عنها أو القبول بها، ويخطئ العدو إذا ظن أن جريمته ستمر بصمتٍ وهدوءٍ، وباستخذاء دون ردٍ، وبهوانٍ دون مقاومة، إذ أن الصمت يغريه والقبول يزيد في غيه وعدوانه، فلزمه القوة ليرتدع، والحزم ليفهم، والإرادة ليعي، فالكرامة واحدة لا تتجزأ، والسيادةٌ كلٌ لا تنتقص، ولا فرق فيها بين الحجر والبشر، أو الشجرة والدابة، أو المياه والغاز، أو الأرض والسماء.
قد يلعن الإسرائيليون أنفسهم ألف مرةٍ ومرةٍ إذ أقدموا على احتجاز البقرات وسوقهن بالقوة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما انصبت عليهم لعنة البقرة الأولى وضلال العجل القديم، فقد أهانوا أنفسهم وأذلوا كيانهم، وشوهوا صورة جيشهم وأظهروا صغاره ودونيته، وكشفوا للعالم كله كيف يتصرف وبم يهتم، وقد ألحقت به المقاومة إهانةً ولطمته على وجهه درساً، إذ أجبرته بالقوة على التراجع والاعتذار، والخضوع والخنوع، وأرغمته على فتح البوابات وإعادة البقرات إلى أصحابها، بعد مفاوضاتٍ مخزيةٍ مع قوات اليونيفيل، ضمن خلالها أمنه خلال عملية التسليم، فبدا الجيش أمام شعبه مكسوراً، وظهرت قيادته ذليلة، وانكشفت حقيقته أمام العالم صريحة.
قد يكون العدو قد أدرك هذه المرة أن أرض لبنان باتت عليه في ظل المقاومة محرمة، ولم تعد أرضاً رخوة، ولا المعركة فيها سهلة، كما كان يظن قديماً أنها فسحة وسياحة، فهي عليه مستعصية حجراً وشجراً وبشراً ودواباً، وسماءً وبحراً وماءً وغازاً، فقد جعلت المقاومة كلفة العدوان عليها صعبة وضريبتها عالية، وعرفت كيف تكبده خسائر فادحة، وتجبره على التراجع والانكفاء، وإعادة التفكير وإلغاء المشاريع والخطط، وإلا فإنه سيدفع ثمناً غالياً، وقد لا يكون هذه المرة أرواحاً ومادياتٍ فقط، بل سيكون حتماً اجتثاثاً وإزالةً، والدخول إلى فلسطين وتحريرها، فهل يدرك العدو الذي انصاع للبقرات، واستسلم للشجرة، وهان أمام الصخرة، أنه لا يقوى على مواجهة مقاومةٍ أقسمت على النصر، وتعاهدت على العودة والتحرير، أم أن البقرات قد فتحت بوابة خاتمتهم، آذنت بإطلاق صافرة زوالهم.