طبيب مخلوق لمهمة خاصة
في الأعياد التي تمر بأزمنة الخوف المادية والانتهازية يطل البعض مثل مصابيح مبهجة في مُحيط معتم، ما يؤكد أن الخير باق، والجمال الإنساني ما زال متدفقا رغم شلالات القُبح، دليلا على أن النُبل والوفاء والعطف قيم لم تمُت كما يتصور الكثيرون. وعلى أن هناك مَن يرون الدين فعل خير، وإحسانا للناس، ودعما للمحتاجين، لا لحية كثة، وجبهة مُتقرحة، وجلبابا قصيرا.
الركض وراء الفقراء
تلك عبارات لعبت برأسي، وطافت وعششت فيه، وأنا أحاول رسم صورة بروفايل للطبيب محمد عبدالغفار مشالي، طبيب البسطاء في مصر، كما يوصف في الأدبيات الشعبية. مُغيث الفقراء، ومبعوث رحمة، وصار “تريند” قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي تعبيرا عن الوفاء من مُجتمع موجوع بداء الفقر، وتحية من أناس رأوه نموذجا للخير اللامحدود، ورمزا للتعاطف مع مُنعدمي ومحدودي الدخل.
إذا كان الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط يقول في واحدة من روائعه “الكل يركض وراء الشهرة.. المال، الحب، الجنس، الرياضة، الفروسية، الطعام، وأنا أركض وراء الفقراء. وهذا من سوء حظي وحظهم. وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع، حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد”، فإن مشالي مثل الشاعر الراحل يركض وراء الفقراء، لا يطلب شهرة ولا مالا، لأنه يؤمن أن هناك بالفعل مَن يستيقظون كل صباح مبكرا كي لا يسبقهم إلى العذاب أحد.
في مدينة طنطا، الواقعة في دلتا مصر، في شمال القاهرة، والمشهورة بحلوى المشبِك، وبمقام الصوفي الكبير الشيخ أحمد البدوي، هناك معلم آخر فريد، يطل ويلمع ويجذب الناس يتمثل في عيادة الطبيب الثمانيني، صاحب أقل قيمة كشف طبي في مصر، وهوعشرة جنيهات، أي نحو 70 سنتا.
اكتسب الرجل لقب “دكتور الغلابة”، خاصة إذا علمنا أن متوسط قيمة كشف الطبيب في بلد مثل مصر يبلغ ثلاثمئة جنيه، أي ما يعادل عشرين دولارا، وإذا كان الطبيب بارعا، ومعروفا مثل مشالي، فإن قيمة الكشف ترتفع لخمسئة جنيه وربما أكثر.
تجربة مع غيث
العشرات من الشباب يوقفون مشالي خلال رحلة سيره اليومية نحو عيادته، ليلتقطوا معه الصور التذكارية. كما يرسمه الفنانون وينحتون تماثيله، أما أبرز ظهور له فكان حين زاره غيث مقدم برنامج "قلبي اطمأن"
تتجاوز محبة الرجل حدود مواقع التواصل، ووسائل الإعلام التقليدية، فأهالي مدينة طنطا ومحيطها الواسع من القرى الفقيرة، يعتبرونه أحد أولياء الله الصالحين. يحفظون اسمه منذ الصغر، ويستبشرون به، ويثقون في علمه، ويفدون إليه في الحالات الحرجة.
في كل يوم وخلال رحلة سيره نحو عيادته في الثامنة صباحا يوقفه العشرات من الشباب ليلتقطوا معه الصور التذكارية استبشارا وإعجابا، ويرسمه الرسامون كبورتوريه باسم على صفحاتهم بمواقع التواصل، وينحت تماثيله النحاتون بوجهه النحيل وأنفه المُدبب كرمز لصانع الخير، والنموذج الإنساني لإغاثة الطبقات الدُنيا.
اللافت أن حكاية الطبيب المتخصص في أمراض الباطنة والحالات الحرجة لفتت أنظار الكثير من الإعلاميين حتى أن غيث مذيع برنامج “قلبي اطمأن” الإماراتي الذي لا يظهر بوجهه، ذهب إليه في طنطا، وانتظره صباحا في عيادته الموجودة بميدان السيد البدوي، لكنه اعتذر بسبب ازدحام المرضى.
وبقى غيث منتظرا حتى تمكن من اللقاء به وعرض عليه مبلغا كبيرا لافتتاح عيادة لائقة في مكان أفضل وتجهيزها بكافة المعدات الحديثة، لكن الطبيب اعتذر طالبا منه أن يذهب إلى الجمعيات الخيرية في المحافظة التابعة لها عيادته (الغربية) فهناك الكثير من الفقراء والمحتاجين.
لمعان تجربة مشالي يثير حفيظة أطباء آخرين اعتبروه مبالغا في زهده، حتى أنه لا يهتم بتحديث عيادته أو ارتداء ملابس لائقة، غير أنه لا يلتفت لذلك ويبقي نفسه بعيدا عن صخب المجادلات بشأن مطالبة الناس للحكومة بتكريمه كنموذج مُشرف للطبيب
تكتظ عيادة الطبيب الواقعة في وسط مدينة طنطا بالزبائن من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، لكن إلى جوارهم يوجد آخرون ليسوا فقراء يثقون في علم الرجل وما يُردد عنه من قدرة على تشخيص حالة المريض بأمانة، ووصف الدواء المناسب، والذي غالبا ما يكون الأقل سعرا.
تمتاز عيادة الطبيب عن كافة عيادات الأطباء في مصر بعدد من السمات، بخلاف قيمة الكشف الرمزية، بأن الطبيب يتواجد دائما بلا بدلاء أو مساعدين، ويعمل لثلاثة عشرة ساعة متواصلة كل يوم، ولا توجد عطلات أسبوعية، كما أن العيادة تبقى مفتوحة خلال أيام الأعياد والعطلات الرسمية كأنها عيادة طوارئ. فضلا عن ذلك، فإنها تكاد تكون العيادة الوحيدة التي تقوم بعمل التحاليل مجانا من خلال جهاز ميكروسكوب قديم يستعمله الطبيب لعمل التحاليل للمرضى داخل العيادة، وفي الوقت ذاته، فإن الرجل يقوم بتقديم الأدوية في بعض الحالات مجانا للمرضى الذين لا يراهم غير قادرين على شراء الدواء.
ولمشالي عيادتان إضافيتان في قريتين صغيرتين، على بعد بضعة كيلومترات من مدينة طنطا، يذهب إليهما كل يوم بعد أن يغلق عيادته الرئيسية، لأنه كان وهو شاب يخدم كطبيب حكومي للوحدة الصحية في القريتين، وبعد تقاعده طلب منه الناس أن يتيح خدماته لهم لصعوبة انتقالهم إلى طنطا لزيارته، والغريب أنه جعل قيمة الكشف في العيادتين الصغيرتين خمسة جنيهات، ويذهب لهما بالتبادل يوما بعد يوم.
مكونات ثقافية
عيادته تكتظ بالزبائن من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، لكن إلى جوارهم يوجد آخرون ليسوا من الفقراء يثقون في علم الرجل وما يُردد عنه من قدرة على تشخيص حالة المريض بأمانة، ووصف الدواء المناسب، والذي غالبا ما يكون الأقل سعرا
عيادته تكتظ بالزبائن من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، لكن إلى جوارهم يوجد آخرون ليسوا من الفقراء يثقون في علم الرجل وما يُردد عنه من قدرة على تشخيص حالة المريض بأمانة، ووصف الدواء المناسب، والذي غالبا ما يكون الأقل سعرا
مشالي من مواليد مدينة البحيرة عام 1944، وكانت أسرته فقيرة إلى حدّ كبير، غير أنها اهتمت بالتعليم والثقافة، حيث كان والده يعمل مفتشا في التعليم، وحرص على تنمية هواية القراءة لدى أبنائه الذين انتقلوا جميعا في سنة 1957 إلى مدينة طنطا واستقروا فيها. ومنذ الصغر، وقبل أن يلتحق بكلية الطب، فُتن بالثقافة وورث عن والده المحبة الطاغية للأديب طه حسين، الملقب بعميد الأدب العربي، خاصة مجموعته القصصية “المعذبون في الأرض” التي حكت في إحدى عشرة قصة أوجاع الفقراء والبسطاء في بر مصر خلال الأربعينات من القرن الماضي.
يقول مشالي في حوار تلفزيوني له مع الإعلامي المصري محمود سعد، “لقد أثر في الكتاب لدرجة كبيرة حتى أنني وهبت نفسي وقتها لمساعدة البسطاء والمُعذبين الذين لا يجدون قوت يومهم”. ورغم محبته لدراسة القانون وسعيه للالتحاق بكلية الحقوق، إلا أنه رضخ لرغبات والده في الالتحاق بكلية الطب، وتخرج يوم 5 يونيو 1967، أي في اليوم نفسه الذي اندلعت فيه الحرب مع إسرائيل، ليكتسب مرارة جيل انكسرت طموحاته وآلامه ويُركز كافة آماله وجهده لتحقيق حلمه في مساعدة المعدمين والتخفيف من أوجاعهم.
كان الرجل مقتنعا بمقولة طه حسين بأنه مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يُسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئا من كرامة تحملهم على أن يجدوا في ما يأكلون مما كسبت أيديهم لذة لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالون فيه.
اندفع إلى العمل بكل طاقة، ساعات وساعات في وحدات صحية ريفية، متخصصا في الأمراض الباطنة والأمراض الحرجة، ومتنقلا من قرية إلى أخرى، بإخلاص حقيقي وتفان شديد جعله يحوز قلوب الناس ودعاءهم، ولم تمر سنوات قليلة حتى افتتح في سنة 1975 عيادته الكبرى في مدينة طنطا، في شقة مستأجرة ظلت شاهدة على تعاقب الأجيال والتفاف الناس ومحبتهم حتى صارت أحب إليه من بيته.
بدأت العيادة تجذب زبائن كثرا، وذاع صيته بعد أن مر عليه الكثير من المعدمين الذين رأوا فيه شهامة ونبل أهل البلد الطيبين، لقد كانت قيمة الكشف الطبي لديه في ذلك الوقت عشرة قروش، وهو مبلغ كاف لشراء دجاجة صغيرة في ذلك الوقت، غير أن بعض المرضى من الفلاحين فضلوا شراء دجاجة لأطفاله على تحمل أجر الذهاب إلى الطبيب، ما دفعه ليُعلن أن الكشف مجاني لمن هو غير قادر على دفع القروش العشرة.
زُهد دائم
الأهالي في مدينة طنطا التي تشتهر بمقام الصوفي الكبير السيد أحمد البدوي يقصدون معلما فريدا أيضا يتمثل في عيادة الطبيب الثمانيني، صاحب أقل قيمة كشف طبي في مصر
ورغم قلة دخله إلا أنه ساعد أشقاءه على استكمال تعليمهم والتخرج في الجامعات بعد وفاة والده، ثُم تزوج وأنجب ثلاثة أبناء أورثهم محبة العلم، وتخرجوا جميعا في كليات الهندسة، وصاروا مُهندسين ناجحين، كما تولى الإنفاق على أبناء شقيقه الأصغر الذي رحل فجأة في سن الأربعين حتى تخرجوا في الجامعة.
حافظ مشالي على زُهده، وحرصه على أن يبقى سعر كشفه الأقل في مصر، مع عدم الالتفات لأي تطور اجتماعي يُغير من طبيعته، كما حافظ على عادة القراءة ليقضي دقائق الفراغ النادرة في قراءة كتاب لأي من رواد الأدب القدامى.
ساعده في تلك الحياة الزاهدة زوجة قنوعة طيبة، اعتبرت كل ما يقوم به زوجها سترا وبركة لها ولأولادها، فلم تطالب يوما بتغيير أثاث البيت أو شراء سيارة للأسرة. واحترمت رفضه للإجازات، وقضاء ساعات طوال لخدمة مرضاه من البسطاء.
تتجاوز محبة الرجل حدود مواقع التواصل، ووسائل الإعلام التقليدية، فأهالي مدينة طنطا ومحيطها الواسع من القرى الفقيرة، يعتبرونه أحد أولياء الله الصالحين
ورغم أن لمعان تجربة مشالي آثار حفيظة أطباء آخرين، اعتبروه مبالغا في زهده حتى أنه لا يهتم بتحديث عيادته أو ارتداء ملابس لائقة، إلا أنه لم يلتفت لذلك وظل بعيدا عن صخب مجادلات على مواقع السوشيال ميديا بين أهالي طنطا بشأنه، ومطالبة الحكومة بتكريمه كنموذج مُشرف للطبيب.
في بعض الأحيان يجد ضمن زبائنه قُضاة وأصحاب أعمال وأساتذة جامعة يأتونه إيمانا بأن الله يُجري على يديه الشفاء. وقد زاره أحد القضاة الكبار يوما ليتيقن بنفسه أن الرجل لا يُعاني جنونا، وبعد أن دخل عليه أخبره أنه كان يعتقد في البداية أنه مجنون، لكنه عندما انتظر وسط الزبائن وسمع أحاديثهم عرف أن هناك فقراء جدا لا يمكن أن يدفعوا أكثر من عشرة جنيهات للتعافي من مرض ما.
ورغم جائحة كورونا وما فرضته على حركة وعمل الناس من قيود، غير أن الرجل ما زال حريصا على العمل كل يوم حتى موعد ساعة الحظر، قانعا بوجبة طعام واحدة في اليوم، وحريصا على الذهاب إلى عمله كل يوم سيرا على الأقدام، مُكررا أن الإنسان مخلوق لمهمة خاصة يقدرها الله لكل شخص، ومهمته نفع الناس بالعلم دون استغلال أو توحش.