في عام 2006 نشر لورانس رايت كتابه The Looming Tower عن تنظيم «القاعدة وهجمات سبتمبر (أيلول) 2001» الذي حاز عليه جائزة «بوليتزر» الأميركية.
الكتاب يبدأ بوصول سيد قطب إلى الولايات المتحدة، وينتهي بأحداث سبتمبر المعروفة التي أيامها أيضاً ساد القول الشائع، أن العالم لن يعود كما كان عليه قبلها. رحلة الكتاب كله كانت كيف أن الأفكار والمنظمات باتت تشكل خطراً على الدنيا التي فشلت في اكتشافه رغم الكثير من العلامات والشواهد وحتى المعلومات، ومن ثم فإنَّ التغيير الشامل بات لا بد منه. وبالفعل تغير العالم من ناحية، حيث باتت قضية الإرهاب هي القضية الرئيسية المهددة للأمن الدولي وليس صراعات القوى العظمى أو حتى الحروب الإقليمية. ومع نوبات العنف نما حديث كثير عن الفاعلين الدوليين من «غير الدول» العابرة للقارات والحدود والتي لا يوقفها أختام الدخول والخروج، أو حراس الحدود، عند الحدود والمطارات والموانئ. كان، ولا يزال، الإرهاب هو أكبر التحديات للنظام العالمي الذي يقوم على «الدولة الوطنية» ذات السيادة على أرض وشعب. ومن ناحية أخرى، فإن التطورات التكنولوجية التي تلت أعطت شهادة بموجات جديدة من اندفاعات «العولمة» التي وإن كانت الولايات المتحدة هي رأس الرمح فيها، فإنها سرعان ما استوعبت دول العالم كلها بما فيها روسيا والصين داخل نظم التجارة العالمية والخدمات والشبكات الصناعية وحتى الاجتماعية بين الأمم. محصلة الناحيتين كانت أن العالم يتفتت بقوة عند القاعدة التي يمرح فيها الإرهابيون الذين استفادوا كثيراً من نوبات «الحراك» والفوضى والطائفية التي تولدت في دول الشرق الأوسط، وربما استفادوا أكثر من حالة السيولة التي ولدتها «العولمة» عبر حدود الدول، حيث عبرت أفكار التطرف والعنف مثلما عبرت السلع والبضائع. عند القمة كانت القوى الكبرى تقترب من بعضها بعضاً، ولم يكن ذلك فقط عندما دخلت روسيا والصين إلى منظمة التجارة العالمية، وإنما أكثر من ذلك عندما جلست جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، لعقد اتفاق نووي مع إيران التي كانت جالسة وحدها على الناحية الأخرى ممثلة لقوى التطرف والعنف. كان كلا الطرفين يمثل العولمة بشكل أو بآخر.
هذه المرة لم يكن الهجوم على أبراج في نيويورك هو ما غيّر العالم، وإنما انطلق من فيروس في مدينة صينية - (ووهان) - ربما لم يسمع عنها من قبل أغلب الساكنين في كوكب الأرض، لكنه وصل إلى كل أنحاء المعمورة لكي يصيب أكثر من ثلاثة ملايين، ويقتل 300 ألف من البشر (ساعة كتابة المقال). ريتشارد هاس – رئيس مجلس الشؤون الخارجية الأميركي – في كتابه الجديد «العالم – مقدمة مختصرة»، يستعيد أحداث سبتمبر التي جاء فيها مجموعة إرهابيين من أفغانستان مسلحين بأسلحة مكتبية حادة لكي يختطفوا أربع طائرات ويستخدموها في قتل 3000 إنسان. ويستدعي أيضاً كيف أن مجموعة من قراصنة الكومبيوتر في روسيا سافروا عبر الفضاء الإلكتروني لكي يتدخلوا في الانتخابات الأميركية لعام 2016. وفي عام 2008 تسببت ممارسة خاطئة لسوق العقارات من البنوك وشركات التأمين في الولايات المتحدة في أزمة مالية واقتصادية عالمية استغرق العالم بضع سنوات للتخلص من آثارها. السياق الذي سوف يأخذنا إلى المستقبل بالضرورة يتصور كيف أن الاحتباس الحراري في الكرة الأرضية يمكنه أن يسبب كوارث طبيعية تعصف بكل ما حققته البشرية من تقدم. لا يقل عن ذلك خطراً أن ينجح إرهابيون في الحصول على أسلحة للدمار الشامل وتجربتها في دعوة الكون إلى الهداية. استدعاء ما سبق من كوارث، وما يلحق منها، يجعل من «العولمة» أول «البروج» المشيدة التي تصيبها في مقتل لعنة «كوفيد - 19».
الولايات المتحدة، وهي و«العولمة» قرينان، ربما كانت ثاني البروج المشيدة التي أصابتها الجائحة بالجروح المادية التي جعلتها تمثل ثلث إصابات ووفيات العالم؛ لكن أكثر من ذلك في سمعتها ومكانتها، وبالتأكيد في اعتبارها القوة العظمي الوحيدة في العالم كما كان يشار لها بالبنان منذ انتهاء الحرب الباردة. صحيح أن واشنطن حتى من قبل أزمة «كورونا» كانت آخذة في الانسحاب من العالم من مواقع خاضت فيها حروباً، ومواقع أخرى كان لها فيها حلفاء تاريخيون وحضاريون. والمؤكد أن الاشتباك مع الصين لم يكن وليد فيروس «يوهان»، وإنما كان واقعاً قبلها في «حرب تجارية» كانت تتناقض مع الحجم الهائل للاعتماد المتبادل بين أميركا والصين الذي جعل الأخيرة يوجد لديها من احتياطي الدولارات ما ينافس ما لدى بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي؛ وفوقها أكثر من تريليون دولار من أذون الخزانة الأميركية. لكن الخسارة الأكبر للولايات المتحدة كانت فيما حدث لجبهتها الداخلية التي لم يسبق لها أن تعرضت لتلك العاصفة من الانشقاق بين البيت الأبيض – قلب الدولة الفيدرالي - وبقية الولايات؛ ولا بين البيت الأبيض ومؤسسات الدولة الفيدرالية الأخرى، ولا بين الرئيس والإعلام. الفيروس لم يتسرب فقط إلى رئات أميركيين، لكن إلى قلب الدولة الأميركية.
الصين هي الأخرى لا تخرج من الأزمة مجروحة بخسائر الإصابات والوفيات وقد باتت القوى العظمى الجديدة في العالم ليس فقط بسبب الفيروس وما سببه لها، لكن لأن «العولمة» المضارة في الأزمة كانت هي سبيل الصين للوصول إلى المكانة التي وصلت إليها. فالصين بحكم الثقافة والجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ هي «المملكة الوسطى» التي يأتي العالم إليها، وفي الأغلب لا تذهب إليه. وفي الحقيقة أن التبشيرية «الماوية» للماركسية في العالم كانت انقطاعاً في تاريخ عريق من الانغلاق، وعلى حضارة مكتفية بذاتها بما لديها من سوق واسعة هي أكبر أسواق المعمورة، وثقافةً لها لغتها المتميزة وتاريخها الخاص. وربما لم تكن هناك صدفة أن الصين استحوذت على 40 في المائة من الاستثمارات العالمية الموجهة إلى العام الثالث، وكانت هي الملجأ الذي ذهبت إليه الشركات العالمية متعددة الجنسية لكي تنتج منتجاتها الخاصة مثل شركة «أبل» للكومبيوتر؛ أو أن تكون الصين، وووهان في قلبها، هي مكان حلقات الإنتاج الأولية أو الوسيطة لصناعات العالم الكبرى. ورغم صراعات كثيرة قريبة في فيتنام وكوريا وأفغانستان، فإن الصين كانت محافظة في التعامل مع هذه الأزمات حتى تلك التي كانت تخصها مباشرة مثل تايوان رغم توازنات القوى التي في صالحها، وفي السابق مع هونغ كونغ ومكاو. ولا ينبغي أن يكون مدهشاً أن الصين عندما قررت الخروج إلى الخارج، فإنها أقامت جزراً صناعية وقف العالم حائراً أمامها بإشكالية السيادة في بحر الصين الجنوبي. الآن، فإن الصين تواجه العالم مباشرة في أقل لحظاته عولمة ولم تقرر بعد ما الذي سوف تخرج به على العالم، وعما إذا كان الخروج سوف يفقد الصين ما تميزت به من «كمون استراتيجي» تستفيد فيه من كل ما ينتجه العالم من أفكار بينما تحافظ على ما يخصها من مصالح ومذاق؟