توفي الدكتور محمد عمارة بالقاهرة قبل أيامٍ عن عُمرٍ عالٍ قضاه ليالي وأياماً في الكتابة والتأليف. فقد ترك الدكتور زهاء الثلاثمائة كتاب، متفوقاً بذلك على مثقفين مصريين آخرين مثل عبد الرحمن بدوي وحسن حنفي، على اختلاف الأصول الثقافية والسياسية. وقد أفاد جيلنا وجيل تلامذتنا من تلك الهمة العالية والنشاط الهائل لعمارة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي عندما أقبل على جمع كتابات النهضويين العرب مثل جمال الدين ومحمد عبده وعلي مبارك والكواكبي وقاسم أمين في صعيدٍ واحدٍ، والتقديم لها بمقدماتٍ مبسوطة، تتضمن استنتاجاتٍ شاملة، وتضعهم جميعاً في قالبٍ واحدٍ أو متشابه: قالب النهوض العربي والإسلامي في مواجهة الغرب وحداثته واستعماره الثقافي والسياسي. وقد كانت لي معه فيما بين السبعينات والتسعينات مواقف تصاعد فيها الجدال بيننا، لكنه كان طيّب الخلق، عفّ اللسان، وما أظنه حمل في نفسه شيئاً ضدّي. كانت المشكلة معه سياسة الأبيض والأسود والتي لا تُفرّق بين المراحل والأفكار والأبعاد، وتبدو في مجملها دفاعاً عن الإسلام، وعن العربية، وعن ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها، رغم المراحل الفكرية التي مرَّ بها: من اليسار إلى القومية العربية فإلى الإسلام. فعندما كان يسارياً كان ابن رشد والمعتزلة وأحمد بن حنبل والأشاعرة وابن تيمية كذلك. وعندما غلبت عليه النزعة القومية غلبت في نظرته إليهم جميعاً الرؤية الأصالية والعربية في وجه اليونان وفي وجه الشعوبية. وعندما صار إسلامياً في الثمانينات وما بعد صار هؤلاء جميعاً أيضاً أعلاماً للإسلام الأصيل وانضمّ إليهم بالطبع ابن خلدون وابن حزم والشاطبي. وفي كل المراحل وحتى سنوات حياته الأخيرة، ظلَّ الإمام محمد عبده عنده علماً على كل جميلٍ وقيّمٍ وأصيل. ولأنه كتب في كل شيء وعن كل شيء، فقد كان مُريحاً للتيار الفكري السائد بين المتعلمين المتدينين، والذين كانوا يقرأون كتبه ويستخدمونها في كل ما يواجههم من قضايا ومشكلات الدين والحداثة والعصر والعلاقة بالموروث. ويريد بعض مؤرّخي الفكر العربي الحديث والمعاصر، اعتباره ممثلاً للثقافة العربية والإسلامية المصرية التي لا تحب النقائض والجدالات، وتجد إجاباتٍ جاهزة على كل التساؤلات، التي كان المثقفون المغاربة يثيرونها في العقود الخمسة الماضية. ولستُ على يقينٍ أنّ ذلك صحيح، لأنّ مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، تعايشت فيها تيارات فكرية مختلفة ومتنوعة، وكان فيها جدالٌ عظيمٌ بعضه معرفي وبعضه سياسي، وما كان المتصارعون والمتجادلون يعدُّون الدكتور عمارة واحداً منهم؛ لكنهم كانوا يعترفون له بالتأثير الكبير في الجمهور المتعلّم والمتدين!
ولنذهب من العام إلى الخاص. أذكر أنّ أول النقاشات التي دارت بيننا في حضور جمهور كانت حول كتبه في المعتزلة والحرية الإنسانية ونظام الحكم. وكنتُ أُفضّل كتاب أستاذه وأستاذنا محمد ضياء الدين الريّس: «النظريات السياسية الإسلامية». والريّس يرى أنه كانت هناك مدارس في التفكير السياسي في الإسلام الكلاسيكي، بينما كان هو يرى أنه ما كان هناك تفكيرٌ يمكن اعتباره سياسياً إلاّ عند المعتزلة وابن رشد. ولدى عمارة ذاكرة حديدية، لكنه ما كان قد قرأ بعد كتب المتكلمين المسلمين مثل مقالات الإسلاميين للأشعري، والملل والنحل للشهرستاني. ولأنّ معرفة النصوص (وحتى حفظها) كانت ميزتنا نحن الأزهريين فقد دارت بيننا (أنا وزملاء لي) حواراتٌ محتدّة وتضارُبٌ بالنصوص أواخر الستينات، فصرنا نحن (وبمساعدته على نحوٍ ما!) إلى أنّ النظريات السياسية التاريخية لا ينبغي التماسها عند الفلاسفة ولا عند المتكلمين، بل عند الفقهاء مثل الماوردي. وظلَّ هو مصراً على أنّ المعتزلة هم أهل التفكير السياسي الإسلامي الأصيل، وإذا كان لا بد من ذكر الماوردي في هذا السياق، فهو جائز لأنّ الماوردي كان معتزلياً أيضاً! ويومها تجرأ بعضنا بالقول: إنّ المسلمين مثلهم مثل غيرهم من الشعوب والأُمم فكروا كثيراً في الشأن السياسي، لكنّ الدين الإسلامي، لا يملك نظاماً معيناً للحكم، والخلافة هي نظام حكم تاريخي مثلما قال علي عبد الرازق! وكان ذلك من المحرمات لدى الأستاذ عمارة حتى آخر حياته، وظلَّ يزعم أن كتاب علي عبد الرازق: «الإسلام وأصول الحكم» (1925) إنما كتبه له طه حسين! وهي نزعة علمانية يأباها الإسلام، لأنها تقول بالفصل بين الدين والدولة!
أما النقاش الآخر الذي دار بيننا فكان بعد عودتي من ألمانيا، وحول العقلانية وماذا تعني. وكان النموذج لديه للعقلانية كلٌّ من ابن رشد والمعتزلة على التوالي. وعندما ذكرتُ له أنّ للعقلانية الحديثة نماذج أُخرى لا تنطبق على الطرفين وينبغي مراعاة السياق؛ احتدّ كثيراً وقال: أنتم تعلمتم رطانات أجنبية وقد طهّر الله منها عقلي ولساني!
ما كان الدكتور عمارة حتى في حقبة إسلاميته الصحوية، متطرفاً. فقد كتب في الرد على المودودي وعلى سيد قطب. لكنّ مقولة «تطبيق الشريعة» نالت منه كما نالت من كثيرٍ من المثقفين الحزبيين وغير الحزبيين. وقد قلت له مرة: ما هي الشريعة؟ هي العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وهي جميعاً مطبقة في حياة المسلمين. وقد أدخلنا السنهوري في فيلم طويل بمسألة تقنين الفقه، والذي تطور لدى الإحيائيين والصحويين إلى تقنين الشريعة، وهو وهمٌ من الأوهام التي يستند إليها الإسلام السياسي! فخفض صوته كأنما هو يسارُّني وقال: لماذا تكره يا أخي تطبيق الشريعة، وأنت أزهري؟!
هل يمكن اعتبار الأستاذ عمارة نموذجاً لتحولات المثقف العربي فيما بين الستينات والتسعينات؟ هو تحول باتجاه الحلّ الإسلامي. لكنْ بقيت معه آثار من المراحل السابقة، ولذلك ظلَّ مختلفاً عن الحزبيين. لكنك لو جادلْتَهُ لذهب صادقاً إلى أنه لم يتغير منذ ولادته. هكذا كان وعيه، ولذا لا يمكن اعتباره نموذجاً لتحولات الثقافة والمثقف في ديار العرب والمسلمين!